لوحة مرمية في الشارع- بالأبيض والأسود- لجندي مرتبك يحاول مساعدة طفلة بائسة كأنها تطلب منه أن يسمح لها بالعبور خلال سلك شائك، حملها كاتب هذي السطور إلى المنزل وعلقها في منزله لارتباطها بمعاناة أبناء الشرق العاثرين بحظهم والمهجرين عن مدن مقعدة على حطام أهلها.
وفي زيارة من جار ألماني ثبت أن تلك اللوحة مشهورة في ألمانيا، إذ تمثل قصة من حقبة الدمار والقتل في أوروبا، حيث طلبت طفلة بلا أبوين أن تعبر السلك الشائك فساعدها الجندي ثم أعدم، وبعد أن ضاعت اللحظة وتاريخها قرّرت ألمانيا النادمة على ذلك أن تخلده في لوحة ما، وإنشاء نصب تذكاري له.
في مدرسة بولاية ألمانية اشتهرت بكثرة المهاجرين وضآلة اليمين المضاد لهم؛ طلبت معلمة في درس تعليم الطبخ من تلاميذها أن يحضر كل منهم طبخة يشتهر بها شعبه؛ أعدت طالبة فلسطينية طبختها فما كان من المعلمة سوى رفض ما قدمته الطالبة قائلة لا شيء اسمه فلسطين، وحسماً للجدال قالت الطالبة: "لنا علم تعترف به دولتك"، فكان الرد "تلك أوهام سياسية للتسويق ليس أكثر".
يقول أمجد الفلسطيني: "أصعب ما يواجه الأب أن يعلم أبناءه على مبدأ ثم يطلب منهم السكوت على القهر، وتجنب الدفاع عن قناعاته أو إبدائها في بلاد غريبة تحاصرك"، حيث رفضت المعلمة طبقاً فلسطينياً أعدته ابنته لحصة الطبخ المدرسية بقولها لا يوجد شيء اسمه فلسطين، في مدرسة أخرى صفع معلم ألماني طالبا غير بالغ لرفعه علم فلسطين في باحة المدرسة؛ فرد عليه الطالب بركلة في بطنه رغم اعتبار القانون الألماني ضرب غير البالغ جريمة يعاقب مرتكبها سواء كان أبا أو معلما أو شرطيا، وحولتها الشرطة إلى قضية شجار بين طرفين.
ورغم تزايد المظاهرات المعارضة للحرب على غزة في بريطانيا وفرنسا، كانت ألمانيا أكثر دولة منعت التظاهرات واعتقلت حتى اليهود الذين شاركوا في التظاهرات، كما أقرت الحكومة مساعدة إسرائيل وزودتها بطائرات مسيرة لاستخدامها في الحرب على غزة..
ورغم تزايد المظاهرات المعارضة للحرب على غزة في بريطانيا وفرنسا، كانت ألمانيا أكثر دولة منعت التظاهرات واعتقلت حتى اليهود الذين شاركوا في التظاهرات، كما أقرت الحكومة مساعدة إسرائيل وزودتها بطائرات مسيرة لاستخدامها في الحرب على غزة، ما يثير تساؤلات حول الموقف المتشدد لألمانيا التي تغص بالمسلمين، خصوصا وأنها برعت تاريخيا في تجنب أي "هجمات إرهابية" في البلاد، عبر سياستها الخارجية بما لا يستفز المسلمين، مع اجتنابها سياسة الهيمنة والتدخل في بلدان الشرق، وانعدام إرثها الكولونيالي في الشرق، إضافة لاحتواء المسلمين على أراضيها.
ولمزيد من الدقة لا بد من تتبع بعض سياسات التكريس في هذه الدولة، أولها أن مظهرا أمنيا مختلفا وناشزا يحضر في شتى المدن الألمانية منذ عقود حتى اليوم، إذ تناوب دورية شرطة وسيارتا أمن لحراسة كل معبد أو كنيس يهودي ليلا ونهارا في كل مدينة، ورغم حالة الأمن المستقرة واتباع نظم الحماية الإلكترونية وكاميرات المراقبة في شتى الدوائر الحكومية؛ لكن طريقة تلك الحراسة الاستعراضية لم تتغير كجزء من حالة تكريس الشعور بالذنب، وتطويع الشعور، وصناعة مخيال جمعي؛ مبني على التذكر الدائم بأن هذا المعبد أو تلك الجمعية اليهودية تعاني خطرا محدقا؛ توكيدا لسردية يراد لها أن تكون تاريخية وحاضرة في الأذهان يتشربها الأطفال وعليها يكبرون.
وفي حين تعجز فرنسا عن إيقاف المظاهرات فهي تقبل باشتراك 4185 من مواطنيها بالقتال إلى جانب إسرائيل؛ دون الانتباه إلى توصيفها في المجال العربي على الأقل على أنهم وفقا للتوصيف القانوني مرتزقة وإرهابيون، طالما أنهم لا ينتمون إلى دولة الكيان في حين يمنع على السوري أو المصري أن ينصر فلسطين ويعد إرهابيا أو مرتزقا، وهو ما يشير إلى معضلة حقيقية تستثمرها إسرائيل؛ في أن كل مواطن أوروبي ولو لم يكن يهوديا يمكنه أن يعطى الجنسية الإسرائيلية وأرضا مغتصبة، وسلاحا لبناء مجتمع عسكري؛ يمارس خارج العسكرة نشاطا حياتيا فيسمى مدنيا.
هناك كثير مما يمكن دراسته في المجتمع الألماني إذ لا توجد جالية يهودية مهاجرة متمايزة عن المجتمع مدنيا؛ ويشكّل اليهود جزءا من المجتمع وفي كل المؤسسات كموظفين لا يكاد المرء يميزهم، مع وجود جمعيات مشهرة تدافع عن اليهود وترتبط بإسرائيل ونهجها، وتمتلك مؤسساتها المدنية خبرة وحنكة في تكبيل من يخالفها وتحييده وإلباسه لبوس العداء للسامية، حتى بدت سياستها كمؤسسات يهودية متماهية مع المجتمع الألماني ومؤسسات الدولة؛ كجزء من سياسة عامة لا تخالف بينها، ويكتسب ذلك بعدا خاصا في ألمانيا وتاريخها في عهد النازية تجاه اليهود والمحرقة، وأصبح الحديث النقدي لأي فعل إسرائيلي يعتبر اعتداء على اليهود حتى إنه صار "تابو" محروسا ومصانا أكثر من تابوات شرقنا العنيد وسلطاتنا الحاكمة.
يقول عالم الاجتماع إدوارد شيلز إن "التقليد ليس فقط ما ينقل أو يتوارث من الماضي لكنه أيضا كل ما له نماذج تمثيلية أو حراس"، بذلك نجد تفسيرا للتقليد الألماني الذي بات اتباعه سمة معيارية تأخذ دورا محوريا في إنسانية الفرد، للتقليد هنا حراس وكهنة هم النظام الألماني برمته، ومن القوة بمكان لدرجة نبذ اليهود من أبناء ضحايا المحرقة الخارجين عن تلك الرؤية الصهيونية.
لا يختلف الدارسون عن أن معاداة السامية مفهوم ونهج مرتبط بأوروبا ولا دخل لشعوب الشرق به، والمتتبع للصورة النمطية لليهود في المخيال الغربي على مدى ثمانية قرون يجد اليهودي بصورة ذاك الجشع ذي الأنف الطويل المدبب، والكرش الكبير والعامل فيما لا يعمل به الآخرون؛ مكرسة في الخطابات الحكومية ووسائل الإعلام ومجالات الثقافة، وتصويرهم بالشر الأكبر؛ منذ عزلهم عن محيطهم حتى إن "غيتو"-المنطقة المغلقة- هي لفظة اشتهرت إبان عزل اليهود قبل قرون من المحرقة في أحياء خاصة بهم فمارسوا أنشطة اقتصادية خاصة منها الإقراض الربوي بنت قوة كامنة وخفية، وشكلت قدرتها الاقتصادية سببا جديدا للنظر لهم على أنهم الذين خطفوا أرزاق المسيحية الأوربية.
ولا تغيب عن الذاكرة صورة المفلس الذي باع بالدين قبالة الثاني الذي باع بالربا القادمة من أوروبا، ولا رواية التاجر شايلوك اليهودي عن الأدب عموما، وعند تشكل الدولة القومية في أوروبا تم تمييز اليهود على أنهم عرقية قومية مخالفة للأصل الأوربي "سامية"، وعانوا القمع الأوربي منذ 1025م حتى وجدت ألمانيا المهزومة في الحرب أنهم الشماعة التي يمكن تحميلها عبأ الهزيمة فارتكبت ما ارتكبته بحقهم، مع توافق في المزاج الغربي ككل للتخلّص من هذا العبء ولإكمال مشروع استعماري للتخلص من معضلات وجودهم فصدرتهم إلى فلسطين لتبدأ مرحلة الشراكة والتخادم بين محتل رئيس وأداة احتلال جديدة- إسرائيل.
إن التبني الأميركي يدخل في إطار مصالح سياسية واقتصادية لا تضمرها ألمانيا، مع دافع ثان هو الصهيونية الأميركية التي ظهرت كتنظيم، في حين أن الرؤية الألمانية تنطلق من اعتبارها ثقافة تَطهُّر وتكفير عن ذنب، حتى أصبحت مقياسا لإنسانية الفرد وإيمانه بالإنسانية والعدل والحقوق، ودليل ذلك أن تشترط ولاية ألمانية على طالبي الجنسية فيها من المهاجرين الاعتراف بحق دولة أخرى- إسرائيل، وأن تعتبر أمن إسرائيل جزءا من أمن دولتها.
تبدو ألمانيا في التعامل مع مؤيدي فلسطين وهم طيف كبير من المهاجرين، سائرة على خطا فرنسا في محاربتها الإسلام والمسلمين..
يروي أحد الكتاب أن مهرجانا ثقافيا تم تداول بعض الآراء فيه عن فلسطين في اللقاءات الجانبية وشوهد الخوف لدى الألمان أنفسهم من ذلك، في تلك النقطة نجدها دولة الخوف مع خشية العار الذي يلحق بمنتقد إسرائيل وكأنه نازي أو متبرئ من الإنسانية المشروطة بالحق الصهيوني المقدس، تحولت عقدة التكفير إلى معيار ثقافي أخلاقي يصعب نقضه.
تبدو ألمانيا في التعامل مع مؤيدي فلسطين وهم طيف كبير من المهاجرين، سائرة على خطا فرنسا في محاربتها الإسلام والمسلمين والتي أدت إلى نشوء فكر منعزل عن قيم الدولة الفرنسية وحدوث عمليات إرهابية، إذ تبني جدارا بينها وبين رعاياها من اللاجئين ينذر بافتراق مفصلي بين قوانين الدولة والمسلمين عموما بكل ما يمكن أن يفضي إليه.
ومع اقتراب أعياد الميلاد واشتعال سماوات المدن الأوروبية بالألعاب النارية؛ التي شبه طيار أميركي بغداد تحت قصفه، بشجرة الميلاد، عام 2003، سيذكر المهاجرون غزة في أوج اشتعالها اليومي؛ يتساءل العربي والمسلم متى يأتي بابا نويل ليهدم سور برلين الجديد ويقود أجيالها لتبني للفلسطيني تمثالا تكفيرا عن جريمة قتلهم اليومي في غزة الآن؟.