واحدة من أهم دلالات حوار فتح وحماس هذا الأسبوع في تركيا تتمثل بتراجع واضمحلال دور مصر التاريخي في القضية الفلسطينية. الأمر لا يتعلق فقط بالحوار الفلسطيني – الإسطنبولي الأخير، على أهميته طبعاً وإنما بنجاح قطر في التوصل إلى تهدئة بين حماس وإسرائيل في غزة قبل شهر تقريباً إثر عجز مصر عن ذلك، كما عقد لقاء الفصائل الفلسطينية بين رام الله وبيروت أوائل الشهر الجاري بعدما اعتادت القاهرة على استضافة تلك اللقاءات في العقدين الأخيرين.
تاريخياً لعبت مصر ولأسباب سياسية وجغرافية وجيوسياسية الدور العربي الأبرز في القضية الفلسطينية، رغم بعض الاستثناءات التي تثبت القاعدة ولا تنفيها على أي حال.
بدا الحضور المصري في القضية الفلسطينية باكراً جداً بالتزامن مع نكبة فلسطين "منتصف القرن الماضي" حيث خاضت مصر ثلاث حروب مع إسرائيل خلال ثلاثة عقود تقريباً، وبعد التوقف زمن الرئيس أنور السادات لعقد تقريباً استأنفت القاهرة حضورها عبر استضافة ورعاية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية زمن اتفاق أوسلو في تسعينيات القرن الماضي.
في العقدين الأخيرين ومع صعود حركة حماس في الساحة الفلسطينية والاقتتال مع حركة فتح ثم الانقسام الفلسطيني صيف العام 2007 رعت مصر مباشرة حوارات المصالحة الفلسطينية بين الحركتين التي أثمرت وثيقة التفاهمات المركزية لإنهاء الانقسام، وتم توقيعها بالقاهرة في أيار/ مايو 2011.
في العقد الأخير توسطت القاهرة بين المقاومة وإسرائيل في حروب غزة الثلاث، كما رعت عملية التهدئة السائدة هناك منذ سنوات وتدخلت لصيانتها كلما تعرضت للانهيار، كما رعت صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل "صفقة غلعاد شاليت" في تشرين أول/ أكتوبر 2011.
بعد فترة توقف قصيرة استمرت لأربع سنوات إثر انقلاب تموز/ يوليو 2013 استأنفت القاهرة نشاطها الفلسطيني، واستضافت حوارات ثنائية وجماعية بين فتح وحماس وبقية الفصائل
الدور المصري تراجع فلسطينياً وبوضوح في الأشهر الأخيرة مع عجز القاهرة عن التوصل إلى تهدئة بين حماس وإسرائيل في أعقاب جولة التصعيد الأخيرة
أثمرت عن التوصل إلى وثيقة أخرى لإنهاء الانقسام - خريف العام 2017 - استندت أساساً إلى الوثيقة الأُمّ التي وقّعت في القاهرة أيضاً قبل ذلك بست سنوات.
غير أن الدور المصري تراجع فلسطينياً وبوضوح في الأشهر الأخيرة مع عجز القاهرة عن التوصل إلى تهدئة بين حماس وإسرائيل في أعقاب جولة التصعيد الأخيرة بينهما "منتصف آب/ أغسطس الماضي" بينما نجحت الدوحة في ذلك، حيث بدا وفد النظام المصري فاقداً للإرادة أو مجبراً ومضطراً للذهاب إلى غزة في ظل أزمات النظام الداخلية والخارجية المستحكمة والنتيجة كانت فشلاً ذريعاً ومدوياً أسس بدوره لسلسلة من النكسات والتراجعات الأخرى.
بعد ذلك بشهر تقريباً عقد لقاء للفصائل الفلسطينية بين بيروت ورام الله، علماً أن القاهرة استضافت الغالبية العظمى من لقاءات وحوارات الفصائل وكل العواصم التي دعت للقاءات مماثلة فعلت ذلك بضوء أخضر أو برتقالي من القاهرة، وفي الحد الأدنى بعدم ممانعة منها.
ثم جاء حوار فتح وحماس الأخير في إسطنبول ليكرس التراجع ويؤكد حقيقة الانهيار الكبير للدور المصري التاريخي في القضية الفلسطينية.
بنظرة إلى الوراء بدأت سيرورة التراجع المصري فلسطينياً أوائل العام الجاري مع الإعلان عن صفقة القرن الأميركية – رؤية الرئيس دونالد ترامب لحل القضية الفلسطينية - التي أيّدتها القاهرة واعتبرتها أساساً مناسباً للتفاوض بينما تعاطى الفلسطينيون معها على اختلاف توجهاتهم بصفتها سرقة أو فضيحة القرن الهادفة إلى تصفية القضية لا حلها.
في أعقاب طرح الصفقة - الرؤية الأميركية انطلق الحوار الثنائي بين فتح وحماس بشكل مباشر وبعيداً عن الوساطة المصرية، كما جرت العادة أقله حتى نهاية العام الماضي.
بعد ذلك جاءت خطة الضم الإسرائيلية لغور الأردن والمستوطنات اليهودية بما يعادل ثلث الضفة الغربية والتي أعلنها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في آذار/ مارس الماضي ووضعها كبند رئيسي في الاتفاقية الائتلافية الحكومية مع خصومه في حزب أزرق وأبيض لتنفيذها ابتداء من أوائل تموز/ يوليو قبل أن تواجه بردة فعل فلسطينية قوية ومعارضة إسرائيلية وحتى أميركية داخلية لأسباب مختلفة طبعاً.
موقف القاهرة من الخطة كان خجولاً ومريباً وتعاطت معها بصمت مطبق تقريباً حتى إن وزير الخارجية المصري سامح شكري رفض المشاركة في لقاء عربي ثلاثي برام الله - منتصف حزيران/ يونيو الماضي - ضم الرئيس محمود عباس ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي من أجل إعلان موقف عربي جماعي رافض وواضح وصريح منها، علماً أن شكري أبلغ السلطة رسمياً اهتمام نظامه بملفات ضاغطة كثيرة أخرى داخلية وخارجية، وأنه لا ينوي الانشغال أو الانخراط في جهود إفشال الخطة الإسرائيلية.
تواصلت سيرورة التراجع المصري فلسطينياً مع اجتماعات الجامعة العربية أوائل الشهر الجاري من أجل مناقشة مشروع قرار فلسطيني يدين التطبيع - التحالف الإماراتي الإسرائيلي، والانتهاك الفظّ للمبادرة العربية التي ربطت التطبيع بحل عادل للقضية للفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، حيث بدت القاهرة مؤيدة للتطبيع المؤذي والضارّ الذي يطعن الفلسطينيين في الظهر، ناهيك عن خروجه على مقررات الجامعة نفسها والأسوأ أن مصر أكبر دولة عربية بدت منقادة خلف الإمارات ومنصاعة لإرادتها وتوجهاتها.
أول أمس الخميس استضاف الأردن اجتماعا عربيا أوروبيا للتأكيد على حل الدولتين العادل في فلسطين وفق الشرعية الدولية – المبادرة العربية جزء منها طبعاً – وشاركت مصر فيه على مضض وبدت هنا أيضاً محرجة ومتلعثمة بدلاً من أن تكون في موقع قيادة الجهود العربية والدولية من أجل صون الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف.
وبالعودة إلى الحوار الحمساوي الفتحاوي الأخير في إسطنبول فقد عقد في تركيا بناء على رغبة صريحة نقلها الرئيس محمود عباس للرئيس رجب طيب أردوغان دعوة ما كان بإمكان قيادة حماس الحالية رفضها أو التحفظ عليها طبعاً، وسعى عباس من ورائها - إضافة لنيل دعم تركيا للمصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام - إلى الردّ مباشرة على تأييد القاهرة للتطبيع - التحالف الإماراتي الإسرائيلي وصفقة القرن والتوجهات والسياسات الأميركية - الإسرائيلية بشكل عام.
عباس وقادة السلطة بما فيهم طبعاً ممثل فتح في حوار إسطنبول جبريل الرجوب يتحدثون في مجالسهم الخاصة دائماً عن نظام عبد الفتاح السيسي كعرّاب لصفقة القرن الأميركية، وكمن انقاد خلف السياسات الإماراتية الضارة والمؤذية في فلسطين وساحات عربية أخرى.
من هذه الزاوية يبدو فقدان النظام المصري لدوره في فلسطين جزءاً من تراجعه، وفقدان دوره الإقليمي في المنطقة ككل من السودان وإثيوبيا وملف سد النهضة إلى ليبيا التي تمثل جزءاً من الأمن القومي المصري، بينما تبدو القاهرة فيها لاعبا هامشيا منقادا أيضاً خلف الإمارات وقوى خارجية أجنبية أخرى.
في الأخير ثمة شيء لافت يكاد يلخص القصة كلها، حيث يفترض أن يطير وفد فتح من إسطنبول إلى الدوحة لاستكمال الحوار مع قيادة حماس والحصول على تأييد قطري سياسي واقتصادي لنتائج الحوار وجهود المصالحة وإنهاء الانقسام ثم سيسافر بعد ذلك إلى القاهرة لوضعها في الصورة لأسباب سياسية وجغرافية، ولكن هذا نفسه يعبر من زاوية أو جهة أخرى عن تراجع مصر وفقدان دورها بحيث باتت تسمع وتتابع أخبار ونتائج الحوار الفلسطيني عن بعد.