يقول كاتب إن الأمير شكيب أرسلان انتمى إلى دولة الخلافة العثمانية وأخلص، ثم ما لبث أن تحول إلى نهج عروبي إبان تحولها إلى قومية بعد سايكس بيكو، وبعد هزيمة مشاريعه المنشودة تحت سطوة الاحتلال الفرنسي لسوريا اعتزل السياسة وتفرغ لكتابة مذكراته الخاصة، فهل سيعيش أبناء الربيع العربي تلك المحنة ويتفرغون لكتابة مذكراتهم؟
وفي غمرة الإحباط التي تجتاح كثيرا من الصادقين؛ بسطاء ومثقفين وعامة؛ لاعتبارات موضوعية قد ترجع إلى عدم وجود أطر عمل جماعي في الشتات، وغياب المؤسسات الخاصة بهم، إضافة لجهد نفر المخذِّلين والمُرجِفين؛ ثمة وهم يتم تعويمه عبر موجة كتابة مجانية مستشرية؛ تستشهد بمن تفرغوا لذلك في الشعر والرواية، في مرحلة بات من السهل لدى كثير من المهاجرين استسهال كتابة مغامرات الحرب، وطريق اللجوء على شكل روايات، ونشرها دون علم ولا معرفة بفن الرواية ولا أصولها؛ بل يبدو أن بعضا منهم لم يقرأ رواية قبل ذلك أو حتى صحيفة من صحف النظام، من حق الجميع أن يكتب ويعبر عما يعتمله بلا شك، لكن أمام هذا الاستسهال ظهرت تجارب لم تخرج عن إطار حب الظهور بمظهر المثقف والكاتب والروائي؛ وتبث خارج ذائقة الأدب وفن الرواية؛ أفكارا وتقييمات تشبه تلك التي تطلقها فنانة مؤيدة لنظام القتل ويتم تداول رأيها وكأنه من زبدة آراء نخبة المجتمع. تكبر الموجة وتعلو، وكأن أحدا سيقرأ تلك الكتابات، وستخلد أسماء من كتبوا بذاك الاستسهال؛ كما خلدت في ذاكرتنا كتابات أدباء المهجر من ميخائيل نعيمة، وإيليا أبي ماضي، وجبران وغيرهم.
المشترك بين اللحظتين هو الكشف وليس الهزيمة التي يراد تسويقها، هزة تكشف الغرب والعالم وتكشف أحلامنا التي سرقت، رغم كل ما قدمت ثورات الربيع العربي من دم وأرواح
إن مرحلة تفكك الدولة العثمانية تمثل نقطة مفصلية، وهزة للذاكرة لمواجهة لحظة الانكشاف على ضعف عميم وقوة أخرى تجتاح كل شيء حينذاك، والتفكر بتناقضاتها يقودنا للهزة الثانية التي نعيشها الآن، المشترك بين اللحظتين هو الكشف وليس الهزيمة التي يراد تسويقها، هزة تكشف الغرب والعالم وتكشف أحلامنا التي سرقت، رغم كل ما قدمت ثورات الربيع العربي من دم وأرواح، هزتان متشابهتان على صعيد المعرفة والوعي غير أن الحال مختلف تماما فلا تخلف، ولا ضعف كالذي كان، إذ أنا لم نقدِّر قوتنا وعوّلنا على خارج ليحسم ثوراتنا، وعلى ضمير دولي مثقوب لينصفنا وكنا طلابا بارعين للحقيقة وحملة لها في زمن أصبح الميزان فيه للقوة لا للحقيقة، وكلمة الحق تحتاج عصا لتحميها وتحمي حَمَلتَها. ثمة اتجاهان خلالهما يمكن تتبع تاريخ الأمير شكيب أرسلان -النابغة كما سمي في عصره-:
الأول: كتابه الذي تمحور حول سؤال النهضة "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم"؛ وجهده كإصلاحي نشط في عهد الخلافة العثمانية لتطوير الدولة والمؤسسات والدستور وتجاوز محنة التخلف في بنيتها وهي تشهد نقطة انحدارها، ومثل موقفه من تيار الإصلاحيين التنويريين الإسلاميين المتمسكين بضرورة الإصلاح الداخلي، وتشكيلهم خطا كاشفا بلا مواربة جرائم القادة العثمانيين مثل جمال باشا السفاح بدمشق مع عدم غياب مسؤولية الأستانة عنها، خلافا للقوميين الذي تشربوا بالفكرة القومية الوافدة واغتروا بفرنسا.
والثاني: قراءته الدقيقة التي تلخصت بعدم الثقة بالغرب ما قبل الحرب العالمية الأولى، وعند فشل إمكان الحاضنة الإسلامية اتجه إلى حاضنة العروبة محذرا من احتلال فرنسا وبريطانيا للمنطقة، وداعيا لضرورة تلازم العرب ضمن اتجاه قومي عربي- ليس على شاكلة البعث فيما بعد، حيث عرض في مذكراته موقفه من الديموقراطية والإصلاح ومشروع الدولة والدستور؛ ضمن كتاب أودعه مكتبة القدس لنشره بعد وفاته، وانتصر لقضيته رغم محاولات تخوينه، وقد كتب مذكراته عند شيخوخته كمفكر وناشط له تجربته وتاريخه ولم يتخاذل أو يندم وهو صاحب الجهد في تجنيب الأقليات حربا مع العثمانيين، وتجنيبه دخول دروز لبنان في مشروع فرنسا.
تحدث غاستون باشلار عن الندم الفكري والمعرفي الذي يعيشه الإنسان، بعد أخطاء معرفية أوصلته للحقيقة مصقولة بتجربة كثير من الأخطاء، وتحدث غيره عن الندم الأخلاقي، غير أن مفردة الندم تتخذ بعدا معياريا أخلاقيا حتى في حيز الفكر والمعرفة فهل يمكننا التساؤل هذا المفهوم في دواخلنا؟ حتى إن مظاهر الاعتراض والثورات المتفتقة في مدن سوريا الآن تبدو أحد مظاهر الندم، وإن كان أولئك الذين ألبسناهم كل سخام العالم قد انتفضوا لأي سبب، وعاشوا ندما ما؛ أفلا يتوجب علينا كثوار إفراد زاوية له في نفوسنا، ونتصارح في ضرورة أن نندم أو على الأقل أن نعترف؟
هل يمكننا أن ندرك أن علينا أن نحترف الكتابة عن الندم ونقول للجميع تعالوا لنندم وليندم كل منا أو فليعترف لنفسه بما فعل وأخطأ؛ عله يصل إلى الحقيقة، حقيقة أن لا وطن تبنيه فئة دون أخرى ولا جماعة دون غيرها
ليس من قوة دولية ستنتصر لشعب من شعوب الشرق، ولن تكرس سوى تفتيته وحقن الضغائن بين فئاته، وفي لحظة هذا الكشف والنقطة المفصلية في ثورات ربيعنا العربي المخذول؛ يراد لنا نخبا وشعوبا أن نستسلم لمرحلة دولية تشبه تلك التي سادت إبان الانتداب، مع بضع تعبيرات دستورية تضمر خندقة وتناقضا أكثر، كل ذلك يحدث ومازالت شعوبنا تحترب فيمن الأصلح بين يمين و يسار، وتنابذ إيديولوجي لا يفتأ يشنج الجميع دون أن يراجع أحد مواقفه أو يعترف لنفسه؛ ندما على لحظة حق عليه السكوت فكتب أو سكت في حين حق عليه الصراخ، واختلفنا بين قومي وديني وبرعنا في التنفيس عن كل عقدنا وضغائننا؛ فهل يمكننا أن ندرك أن علينا أن نحترف الكتابة عن الندم ونقول للجميع تعالوا لنندم وليندم كل منا أو فليعترف لنفسه بما فعل وأخطأ؛ عله يصل إلى الحقيقة، حقيقة أن لا وطن تبنيه فئة دون أخرى ولا جماعة دون غيرها، بعيدا عن جلد الذات أو لعن الثقافة والعروبة والأديان؛ سعيا لتحقيق الجماعة السياسية التي تتعالى عن العرق والإثنية والطائفة، وتعامل الفرد بذاته ولذاته وتحترم ثقافته وتاريخه، وبعيدا مساحة النشاز ما قبل الدولة التي يحترفها البعض تحت مسمى الحرية متبعين شعبوية ورغبة وهوسا بذهنية الحشد والقطيع والأضواء الفاتنة. ها هو المفكر والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو الذي نشر كتابا عن الندم؛ يعترف ويسمي نفسه "أديبا ناقصا" لقلة قراءاته، في حين تتحفنا شتى وسائل التواصل والقنوات والبثوث في الفضاء الأزرق؛ بكتبة لم يقرؤوا شيئا واحترفوا التنظير، أو آخرين أكلوا أطنانا من الكتب ولم يدركوا جزءا منها وبقوا مسجونين بين جلدتي كتاب كارل ماركس أو ميشيل عفلق، أو فقهاء ملوك البترودولار ويمارسون شعوبية جديدة كشفها شكيب أرسلان قبل قرن إذ قال" لكل عصر شعوبيته، وشعوبية هذا العصر هي أولئك الأدباء والكتاب الذين يهاجمون العرب والعروبة" حيث تظهر في قلب الصدمة التي نعيشها فئة مثقفة تماهت مع خطاب التنميط الغربي للعرب والشرق والإسلام، و لكأنها تحاول إيهام أمة انتفضت شعوبها لأجل الحرية أنها معطوبة في جوهرها وأن الغرب قِبلة الجميع مثقفين وشعوبا ونخب.
يقول علي عزت بيغوفيتش "لم يُغَنِّ الشعب للذكاء، وإنما غنّى للشجاعة، خصص الناس أحلى قصائدهم للفضيلة التي يُقدِّرونها أكثر من غيرها لأنها الأكثر نُدْرةً من غيرها، فضيلة الشجاعة واحتقار الخطر والموت"، ومن شجاعة المرء أن يواجه الخطأ بالندم، و مثلما أن أي نجاح لتجربة ما هو إلا تتويج لتجارب خاطئة كثيرة؛ ولا يتعلم من لا يعترف بخطئه، ولا نضج بلا معرفة وحقيقة تشذب أخطاءنا؛ وتأتي مقولة محمود درويش لنسائل أنفسنا "لا تندم على حرب أنضجتك" فهل نضجنا؟