هل هي عوامل موروثة وعميقة الجذور في (ثقافتنا وفي تكويناتنا الأنثروبولوجية (الإنساني) أدت وما زالت تؤدي إلى فشلنا، وأنّ علينا أن نكشف هذه العوامل، لإعادة بناء مشروعنا الوطني التحرري الديمقراطي بناء على نتائجها من جديد؟!.
وباعتبار أن مسؤولية التقدم والتخلف، تُلقى على عاتق النخبة السياسية التي تتولى قيادة البلاد في كل مرحلة من مراحل تطورها، هل يكفي أن أختزل القول في حدود المتاح، لا لنفي هذه المقولة أو إثباتها، بل لاستعراض التجربة وترك الاستنتاج والحكم النهائي لأهل الرأي والقارئ الكريم.
رئاسة شكري القوتلي الأولى
رغم أن الرئيس شكري القوتلي بدأ رئاسته الأولى بشعار (وحدة الصف) ورفض الحياة الحزبية، بهدف تثبيت زعامته، لكنه سرعان ما راح يعمل ليضمن تجديد فترة رئاسته عبر تعديل الدستور واستبعاد المنافسين له على الرئاسة، وفي حمى التنافس واتهامه بالتهاون في حرب 1948، وقبوله الهدنة، تعاظمت الاحتجاجات في سوريا كلها وعمت التظاهرات الصاخبة في الثانويات والجامعة.
وفي 12 من شباط 1949 وصل 43 طالباً مصابا بالرصاص إلى المستشفى الوطني في دمشق، بينهم ثلاثة قتلى وثلاثة حالتهم خطيرة. وأمام استمرار الاحتجاجات الغاضبة وتفاقم الأوضاع الأمنية وازدياد عزلة الرئيس، لجأ القوتلي إلى فرض الأحكام العرفية وأمر قائد الجيش حسني الزعيم بقمع التظاهرات، ولما نجح الزعيم بمهمته، تعاظمت قوته وانتهى به الأمر إلى الاستهتار بالرئيس ورجال السياسة المدنيين، ثم قام بالانقلاب العسكري الأول.
ترجم انقلاب الزعيم في 30 من آذار 1949 ضغوط الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية على الرئيس القوتلي، للتوقيع على اتفاقية تمرير البترول (خطوط التاب لاين) عبر الأردن وسوريا.
حصيلة الانقلابات العسكرية
ترجم انقلاب الزعيم في 30 من آذار 1949 ضغوط الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية على الرئيس القوتلي، للتوقيع على اتفاقية تمرير البترول (خطوط التاب لاين) عبر الأردن وسوريا وما إن أودع الزعيم رئيسه في السجن، حتى سارع إلى توقيع اتفاقية التاب لاين والاتفاقية النقدية وراح طرفا المعادلة في الحكومة المدنية وضباط الجيش، يتبادلان الاتهامات والتخوين والفساد في الأسلحة، وبدعم من نوري السعيد في العراق انقلب الحناوي على الزعيم بعد ميله عن المحور العراقي باتجاه السعودية.
في صباح 14 من آب 1949 أعدم الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي، ثم أعلن الحناوي أن الجيش سيسلم الحكم للمدنيين واتفق الضباط، أن يقوم هاشم الأتاسي بتشكيل حكومة مؤقتة، تعمل على إعادة الحياة الدستورية للبلاد. بينما تابع الحناوي سياسة سلفه الفاسدة والمعادية للديمقراطية واعتقل العديد من قادة الشيوعيين والنقابيين، فأصدر الحزب الشيوعي بيانا يدعو فيه إلى إسقاط مشروع الاتحاد الملتبس بين سوريا والعراق مستنكراً توجهات الحناوي.
وقال الحزب في بيانه "الشعب السوري لا يريد عساكر الإنكليز ولا مشانق نوري السعيد، بل جمهورية ديمقراطية متحررة من سيطرة الاستعمار ومعاهداته"، ولكن الانقلاب دعم هوى حزب الشعب المؤيد للاتحاد مع العراق فاستولى على المواقع الرئيسية في الحكومة الانتقالية، برئاسة هاشم الأتاسي وناظم قدسي للداخلية ورشدي كيخيا للخارجية.
الانقلاب الثالث
تم اعتقال الحناوي بعد انكشاف رغبته باعتقال الضباط المناوئين للاتحاد مع العراق في 1949/ 26/12 وفشلت مساعي حزب الشعب بإقامة الاتحاد مع العراق وأصبح العقيد أديب الشيشكلي معاونا لرئيس الأركان ثم أعلن إقصاء سامي الحناوي فأصيب اليمين الموالي للعراق والإنكليز بصدمة قوية وعرفت البلاد ازدواج السلطة وتم استبعاد أي حكومة، تمثل حزب الشعب وعيّن الشيشكلي خالد العظم رئيساً للوزارة عام 1951.
ويفهم من اللوم الذي يوجهه خالد العظم إلى الحزب الوطني وحزب الشعب لقبولهما التعاون مع العسكر ونسيانهم أن المُعطي قد يستعيد أعطيته متى شاء: ويتابع :"لست أدري إذا كان الحال تغير لو حزم المدنيون أمرهم وتعاهدوا على عدم التعاون مع العسكريين وتركوهم وحدهم في الحكم".
إنها الديمقراطية التي جددت ثورة الحرية والكرامة 2011 طرحها وما زالت تؤكد عليها انتفاضة السويداء وتجمعات ومؤتمرات سياسية عديدة
التحول إلى الديمقراطية.. تجربة الخمسينيات
أضعفت استقالة الشيشكلي في 25 من شباط 1954 الجيش لصالح النخب المدنية الليبرالية، فأعادت التجربة الديمقراطية الأولية التي غدرت بها الانقلابات المتتالية، وشهدت سوريا بين 1954- 1958 التجربة الديمقراطية الأفضل في محيطها آنذاك، إذ وفرت وزارة سعيد الغزي مناخاً غير مسبوق من الحياد والنزاهة الانتخابية النيابية، وأقيمت تحالفات ومنافسات حقيقية، عكست جليّاً موازين القوى السياسية والاجتماعية، التي أعقبت الصراع مع الديكتاتوريات والإدارات السابقة، وبرزت قوى شعبية وتقدمية تزاحم الحزبين التقليديين (الوطني وحزب الشعب) وتمثلت بحزب البعث والحزب الشيوعي السوري وشخصيات وطنية مستقلة، واستطاعت هذه القوى مجتمعة التصدي للضغوط الخارجية الكبيرة ومحاولة تأثيرها على نتائج الانتخابات أو إفشالها، سواء من جهة العراق ومن خلفه بريطانيا، أو تلك الضغوط الأميركية المتصاعدة في مناخ الحرب الباردة لكبح المدّ اليساري، ولقد نشرت صحيفة (الرأي العام) 1954 أن "السفير الأميركي استوضح من حكومة الغزي، عما إذا كانت هناك تدابير خاصة، يمكن اتخاذها ضد مرشحي الحزب الشيوعي"، فكان جوابه "إنّ قانون الانتخابات قد كفل تكافؤ الفرص أمام جميع المواطنين" لكن هذا الواقع الصحي، لم يستطع أن يمنع التدخل السعودي المصري في انتخابات رئاسة الجمهورية التي حرمت خالد العظم والذي بلغت كتلته الهائلة 80 نائباً في البرلمان من الفوز وهيأت لفوز شكري القوتلي الأقرب إليها بالرئاسة، رغم أنه كان هناك رفض سوري عام لعودته إلى البلاد ولمحاولة ترشحه لرئاسة الجمهورية.
ولقد استهجنت الصحافة والقوى والشخصيات الوطنية مظاهر الاستقبال الاحتفالي له في المطار، من قبل رئيس الأركان شوكت شقير على رأس وفد عسكري وقابلته باستنكار شديد، وهو وغيره أداروا مؤامرة نجاح القوتلي العائد من منفاه في مصر وتلاحقه تهم التهاون في حرب الإنقاذ وعلاقة ملتبسة مع الحركة السلفية (الجمعية الغراء) التي تولت الدعاية له والتي اغتال ثلاثة من أعضائها الدكتور المعارض والوطني الكبير عبد الرحمن الشهبندر 1940 ثم راحت تتجاوز على القوانين والأنظمة وتهدد السياسيين وتتسلح وتقتحم، وكل ذلك في عهد رئاسته الأولى 1943 التي نجح بتمديدها في 1947 وقطعها انقلاب الشيشكلي عليه.
سبعة قرون وديمقراطيتنا لم تزل يتيمة
وأخيرا أليس غريباً ألا يجد السوريون في تاريخهم سوى تلك التجربة التي مضى عليها سبعة قرون ولم تعش سوى أربع سنوات، لأن العسكر فرضوا عليها أن تخلي مكانها لوحدة ارتجالية بطابع إمبراطوري ناصري، وجد فيها الأميركان والحكومات العربية الحليفة قوة كبح لجماح السياسة اليسارية والديمقراطية في سوريا. وعندما أعاد إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي في بيان مجلسه الوطني الأول في دمشق عام 2007 ضرورة إنقاذ البلاد بالتحول الديمقراطي السلمي المتدرج، شن بشار وريث أبيه حملة اعتقالات واسعة، طالت عددا من كوادر الإعلان وقياديه، وشتت التوافق الأكبر في تاريخ سوريا بين القوى الليبرالية والديمقراطية والإسلامية المعتدلة بما فيهم من ممثلي الكرد والآشوريين.
إنها الديمقراطية التي جددت ثورة الحرية والكرامة 2011 طرحها وما زالت تؤكد عليها انتفاضة السويداء وتجمعات ومؤتمرات سياسية عديدة، وثيقة المناطق الثلاث، ولكن الجميع لم يزل يترقب التقاء الديمقراطيين السوريين والنهج السوري الإسلامي المعتدل على موقف واحد وقيادة واحدة.