مع مرور كل هذه السنوات على انطلاقة الربيع العربي بكل ما حدث فيه وبكل الفشولات التي طالت مآلات ثوراته وانتفاضاته في كل الدول التي انتفضت من دون استثناء، حتى التي دخلت في الموجة الثانية من الربيع مثل السودان ولبنان والجزائر.. ينبغي على المفكرين والكتاب محاولة تفكيك ظاهرة هذا الفشل الذريع والعام لمعرفة الأسباب الأساسية له، والبحث عن حلول لها ووضع التنظيرات التي يمكن لها أن تكون دلائل رئيسية أمام الأجيال العربية المقبلة.
ذلك أن حركة التاريخ تقول إنّ الثورات لا تقف عند أول موجة ولا تنتهي من الهزيمة الأولى، بل غالباً ما تكون تلك الهزائم هي مجرّد مقدمات لموجات جديدة قد تهزم أيضاً وتفشل كما سابقتها لكنها في أثناء ذلك تضع أساسات التغيير التي يمكن للأجيال القادمة أن تبني عليها حركاتها وانتفاضاتها، وبالتالي تحقّق التغيير الكامل الذي لا بد وأن يكتمل يوما ما، وقد لا يكون التغيير كما نراه نحن اليوم، أقصد بذلك تغيير البنى والنظم السياسية الحاكمة، وقد يتخذ أشكالا مختلفة، اجتماعية واقتصادية وجغرافية وديموغرافية حتى، لكن ذلك كله سوف يصب بالنتيجة في مصب التغيير السياسي.
عنّي أنا شخصياً أرى أن المنظومة السياسية الحالية لن تستمر طويلاً، فهي منظومة رجعية وفاشلة في زمن ما بعد الحداثة، ما يعني أن استمرارها طويلاً سوف يكون عقبة في التطور البشري سريع الخطى، وهذا ما يجعلها تحمل نهايتها معها، خصوصاً وأن هذه المنطقة من العالم هي منطقة بالغة الأهمية، ليس فقط للثروات المعدنية المختزنة في أرضها، بل لعمقها التاريخي والحضاري أيضاً، فهي أرض الأديان التي شكّلت الوعي الجمعي البشري على كوكب الأرض، الوعي الجمعي الذي أسّس لكل ما نراه اليوم في عالمنا الحديث، سواء أكان حضارة وعلماً أم خراباً وتخلفاً، دون إغفال نقطة أن عالمنا العربي كما نعرفه اليوم أسّس معظمه نتيجة الحروب والاحتلالات التي كان الديانات ذريعتها الرئيسية.
هذا التغوّل المهول في الانحطاط على كل المستويات لدى الدول التي شهدت الموجة الأولى من موجات الربيع العربي، لا يمكنه أن يكون صدفة، هو رد فعل وقائي للاستبداد ومحاولة لاسترداد مكانته المهددة بالانتفاضات والثورات، لكنه في نفس الوقت يحمل بذور نهايته معه
لكل تلك الأسباب فإنّ هذه المنطقة ليست منطقة عابرة في الأرض (لا يوجد على كوكب الأرض منطقة عابرة أو لا تثير الاهتمام)، ولا يمكن أن تترك وشأنها هكذا؛ وبكل حال، فإن ما حدث في تاريخها الحديث وفي العقد الأخير من الزمن من أحداث مأساوية ومن قتل وتهجير وتدمير وحروب أهلية طاحنة، ليس سوى دليل مؤكد على أنها منطقة تشكل نقطة مهمة للتجاذبات والمصالح السياسية والاقتصادية الدولية؛ وأن طريق التغيير الحقيقي فيها لا بد وأن يمر بعوائق وعقبات كثيرة سوف تستلزم دفع أثمان هائلة.
قد يبدو ما يحدث اليوم والأثمان الباهظة المدفوعة ليس أكثر من مقدمة تنبؤية عما سيحدث لاحقاً وعمّا ستقدمه شعوب هذه المنطقة في سبيل تحرّرها الكامل، لكنه التاريخ وسيرورته وحركته، ولنا في تاريخ العالم والثورات العظيمة التي حدثت به وغيرت وجهه مثالا لا بد وأن نتذكره دائما كي لا نصاب بالخيبة والإحباط واليأس.
لنراقب ما يحدث اليوم في عالمنا العربي من استعادة للاستبداد وتغوله بشكل مخيف من جديد، واستعادته لأساليب استبدادية قديمة: مصادرة كتب ومنعها، تهميش الثقافة والفكر والبحث ومحاولة منعه، سيطرة أمنية وعسكرية على وسائط الرأي العام ومن صحافة وتلفزيون، اعتقالات عشوائية لمجرد الشبهة، آليات السيطرة ومحاولات استعادة نظام التوريث، فساد إداري ومالي مترافق مع تردي مهول في الأوضاع المعيشية للمواطنين، محاولة التحكم في الحريات الفردية وخنق الحريات العامة تحت شعارات وطنية ودينية متخلفة وإعادة الفضاء العام لسيطرة الحركات السلفية والتحالف معها من قبل الأجهزة الحاكمة، صراعات داخلية بين رجال الأنظمة ورجال الأعمال والمؤسسات الأمنية، بيع القرارات الوطنية والسيادية مقابل الاستمرار في الحكم والسيطرة، تسليم وبيع مفاصل الدول لدول احتلال اقتصادي وعسكري وسياسي، تعزيز الحالة الشوفينية القومية الوطنية وتعزيز شعاراتها واستخدامها في الأوقات الحرجة كبديل عن المواطنة، الإعلاء من شأن الهويات الصغيرة ما قبل الوطنية الجامعة بما يضمن بقاء سيطرة المنظومة الذهنية القبلية التي تحارب التفرد والتميز لصالح الصوت الواحد ومسار القطيع القبلي، المزيد من إفقار الشعوب وتهميشها وتجهيلها عبر إفساد منظومة التعليم والصحة والخدمات العامة لصالح إنجازات دعائية تحمي الفساد وترعاه، تعزيز مفهوم البلطجة والتشبيح والتعدي علي القوانين عبر دعم أعمال فنية تمجد الثراء غير المشروع والإتاوات والتجارات الممنوعة ما يجعل من ذلك مشروعاً لدى العامة التي لا تجد قوت يومها ولا يمكنها أن تطالب بحق من حقوقها عبر القانون؛ تشويه كل شيء واستبدال الجمال بالقباحة وتدمير ما تبقى من وعي جمالي لدى الشعوب، إلى آخر ما هنالك من ممارسات الأنظمة العربية الحالية واستعادتها لآليات قديمة بذهنية رجعية وفاشلة لا تملك الحد الأدنى من الرؤية الحداثية للحياة.
هذا التغوّل المهول في الانحطاط على كل المستويات لدى الدول التي شهدت الموجة الأولى من موجات الربيع العربي، لا يمكنه أن يكون صدفة، هو رد فعل وقائي للاستبداد ومحاولة لاسترداد مكانته المهددة بالانتفاضات والثورات، لكنه في الوقت نفسه يحمل بذور نهايته معه، إذ لا يمكن، بحال من الأحوال، أن يستمر هذا طويلاً، ذلك أن تأسيسه سابقاً استلزم عقوداً طويلة كادت أن تنتهي بسنة واحدة من التظاهرات، لكن ما يحدث الآن يظهر وكأن منظومة الاستبداد تريد استعادة كل أدواتها دفعة واحدة، متجاهلة أن العالم يتغير بسرعة مذهلة، وأن الانفتاح الذي وفّرته التقنيات الحديثة يجعل من طرائق القمع السابقة غير مجدية، وأن ما كان مخيفاً في السابق جربته الشعوب إلى أقصاه فلم يعد يصلح كعصا للتهديد، إضافة إلى أن العالم يشهد حالياً متغيرات كثيرة على كل الأصعدة وليست الحروب الحالية سوى طريقة من طرق التغيرات، لكن بعد حين سوف تنتهي الحروب وتعاد صياغة مصالح الدول الكبرى وتحالفاتها، وهو ما يعني استبدال أنظمة بالية بأخرى أكثر حداثة وانفتاحا، وقد تكون نتيجة ذلك رؤية جديدة لجغرافية هذا القسم من العالم، وقد تنشأ دول جديدة بأنظمة جديدة، وقد تنتفض الشعوب وتأكل انتفاضتها الأخضر واليابس، قد يحدث أي شيء لكن من المستحيل أن تستمر هذه الأنظمة طويلاً.
والحال إن واجب النخب العربية الحالية، سياسية وفكرية واقتصادية، الموجودة حالياً على الساحة العربية، والتي تعيش هزيمة الربيع العربي حالياً، إجراء مراجعة لكل ما حدث، ولدورها فيه، والاعتراف بشفافية بمسؤوليتها عن أخطائها والسعي لتصويب رؤيتها للمجتمع العربي وأولوياته بعيداً عن المزايدات الوطنية والإيديولوجية؛ النخب العربية اليوم مسؤولة مثل الأنظمة عن هذا الفشل، بل ربما أكثر، فالأنظمة فعلت ما اعتادت على فعله: القمع والفساد والإجرام واللعب على الغرائز، بينما كان على النخب المعارضة والفكرية وضع بدائل متينه وقوية لآليات الاستبداد، وهو ما لم تستطع فعله للأسف ما أفقد شعوبنا فرصة كبيرة للعيش أخيراً بكرامة؛ الفرصة الآن أمام هذه النخب لاستعادة دورها وواجباتها الوطنية تجاه الأجيال القادمة من شعوبها، فهل ستتمسك بالمبادرة يا ترى؟!.