رغم أنه أصبح جزءاً من الماضي تقريباً، إلا أنّ تنظيم داعش لا يلبث يطرق أبواب عقولنا، فيزرعها حيرةً وتعجّباً ممّا رأينا عبر وسائل الإعلام أو شهدنا عياناً، كلٌّ حسب تجربته.
استسهل كثيرٌ من المراقبين تفسير الظاهرة الداعشية. القسم الأكبر ردّها للتطرف الديني، وهؤلاء كانوا بالغالب ممالئين لرواية النظام السوري. بينما عزاها آخرون -وأكثرهم باحثون عراقيون وغربيون- للظلم الاجتماعي والظروف الاقتصادية التي تسود مناطق معينة دون غيرها في العراق أو سوريا.
لكنّ نهج تنظيم داعش الغرائبي في التعبير عن نفسه يجعل تفسير المظلومية قاصراً، ويستنفذ صلاحية التطرف الديني لتبريره. نعم، المتطرفون دينياً يفعلون كل أنواع الجرائم. فالصليبيون قبل نحو ألف عامٍ سلقوا أطفال معرة النعمان في القدور وأكلوا لحومهم. وهم ما فعلوا ذلك إلا استحلالاً لها بوصفها لحوم كفّار. وقد يفعل المتطرف الإسلامي أو البوذي أو اليهودي أشياء كثيرة، فالتدين الزائد عن الحدّ يتجاوز عتبة المنطق ليصبح نوعاً من الشذوذ والعُصاب النفسي الذي يؤدي بصاحبه لارتكاب أبشع الموبقات.
داعش نفّذ جرائمه برصانةٍ وثقة تحت مرأى طيران التحالف الدولي ولم يبدُ في عيون مقاتليه ذرّة من الارتباك أو الإحساس بالخوف
لكن تنظيم داعش لم يبدُ عُصابيّاً أو مسعوراً، بل كان "صاحياً" لما يفعل وقام بما قام به بهدوء أعصاب ودم بارد حتى ليوحَى إلينا أن العقول التي سيّرت داعش أذكى بكثير وأعلى بدرجاتٍ عظيمة من تلك الحفنة من المتطرفين الحمقى الذين جذبهم النعيق وساروا في القطيع. فداعش نفّذ جرائمه برصانةٍ وثقة تحت مرأى طيران التحالف الدولي ولم يبدُ في عيون مقاتليه ذرّة من الارتباك أو الإحساس بالخوف. فهل كان داعش فوق مستوى ذكائنا، وأعلى من قدراتنا المتخلفة على أن نصطنع إرهاباً حقيقياً يرعب الناس ويصدمهم؟
يرى الدكتور فيصل القاسم في مقالٍ له في (القدس العربي) أن تأخرنا عن ركب الحضارة الغربية بلغ بنا مبلغاً لدرجة أنه يستحيل تصديق أننا قادرون على صناعة الإرهاب، ويذهب للقول إنه "حتى الجماعات الإرهابية المحسوبة عليكم ليست أصلاً من صناعتكم، بل من تأليف القوى الكبرى واستخباراتها الأخطبوطية." ويمضي الدكتور فيصل في نقده الشديد لواقع العرب فيقول، "باختصار حتى أسوأ ما عندكم من صناعات ليس من صنعكم أصلاً".
كنت مرةً برفقة باحثٍ أستراليّ أساعده في الترجمة خلال لقاءٍ جمعه بناشط سياسي سوري معارض. سأل الباحث إن كان لدى الناشط قرائن على دعم النظام السوري لتنظيم داعش فنفى الناشط ذلك مطلقاً وقال بما معناه، "إن تنظيم داعش أكبر بكثير من نظام الأسد وإن النظام أغبى بكثير من أن ينتج وحده هذا الأبوكاليبس الذي نراه في المنطقة." وأردف الرجل أن النظام ليس إلا حلقةً صغيرة من سلسلة استخبارية عالمية تسيّر داعش وتنسق حركته نحو الأهداف المطلوبة، فالنظام مسيرّ لا مخيّر هنا.
لقد احتفظت ذاكرتي -كذاكرة الملايين غيري- بمشاهد مروّعة من أعمال داعش لا يمكن أن تُمحى بسهولة، وخصوصاً أن داعش صوّر تلك المشاهد بأحدث الكاميرات في العالم وأخرجها باحترافية لا تقل عن احترافية هوليود وبثّها للعالم بجودةٍ عالية ولم تقصّر وسائل الإعلام الدولية في نقلها. من تلك المشاهد قتل الناس ذبحاً وحرقاً وتغريقاً وصلباً، وإجبار الضحايا على حفر قبورهم بأيديهم، واستخدام الأطفال لتنفيذ الإعدامات، وملء الآبار بالجثث، وقتل أصحاب القرائح السامية على أيدي أحطّ الناس وأكثرهم غباوة، ورفع الرؤوس على الحراب وتعليق الجثث في الساحات.
يقول المثل السوري: "ذهبت السّكرة وجاءت الفكرة." وهكذا عندما انتهى داعش وارتحنا من ثرثرة "الخبراء" في الإرهاب والإسلام والتطرف، رحنا نفتش صفحات التاريخ على ما يعيننا على تفسير ما حصل وقد أدهشني شخصياً أن كل هذه الأعمال المفرطة في الخيال الإجرامي مستمدة من تاريخ الثورة الفرنسية. فأثناء الثورة الفرنسية انتشرت الفوضى، وضربت عوام الناس عدوى التعصب والكراهية، وانفلتت العقول وتوحّشت الضمائر، فوقعت حوادث عجيبة على امتداد الأقاليم الفرنسية لم يشهدها التاريخ لا من قبل ولا من بعد، حتى أتى داعش حيث صار بإمكاننا أن نزعم الآن أن العقول التي أسست هذا التنظيم استوحت كثيراً من الأفكار الإرهابية من الثورة الفرنسية، ثم دفعتها للمسؤولين التنفيذيين على الأرض كي ينفذوها باسم الإسلام تارة، وباسم الثورة السورية أو الربيع العربي تارةً أخرى.
حقق داعش لصانعيه أهدافاً استراتيجية كبرى تتجاوز سوريا والعراق، وتدخل في معادلات الإسلاموفوبيا، وأساليب غسل أدمغة الشعوب، وتقنيات نشر الخوف وتعزيز قوة السلطات
لا بدّ أن هناك مصادر أخرى وتجارب مختلفة استقى منها "كتّاب سيناريو" داعش أفكارهم، والأيام وحدها كفيلة بكشفها. لكن بالمحصلة، حقق داعش لصانعيه أهدافاً استراتيجية كبرى تتجاوز سوريا والعراق، وتدخل في معادلات الإسلاموفوبيا، وأساليب غسل أدمغة الشعوب، وتقنيات نشر الخوف وتعزيز قوة السلطات، وانتهاب ثروات البلدان الضعيفة، واللعب بمهارة على رقعة شطرنج السياسة الدولية.
لقد أصاب الدكتور فيصل القاسم. فنحن لسنا أكثر تأخراً من أن نوجد داعش فحسب، بل إن تنظيم داعش فوق مستوى ذكائنا، وقد لا يحالفنا الحظّ أبداً في أن نفهم قصته كاملة.