ما حدث ويحدث حتى الآن في جامعة كولومبيا في نيويورك في مسألة تضامن الطلاب مع مأساة غزة والقضية الفلسطينية وسعيهم اليومي للاحتجاج والمطالبة بوقف الحرب ووقف الدعم الأميركي لإسرائيل، يضعنا أمام سؤال محزن وبائس، ولا يدل سوى على بؤس ما وصلنا إليه، نحن العرب، وبؤس وضعنا العربي العام، وبؤس المستقبل العربي، إن كان ثمة مستقبل، وبؤس الحاضر المعطل من أي فعالية وطنية أو ذات قيمة نضالية مؤثرة يمكن للجيل الشاب أن يقوم بها.
"أين الجامعات العربية مما يحدث في غزة"؟! هذا سؤال تردد طرحه خلال الأيام الماضية كثيرا على وسائل التواصل الاجتماعي بعد تداول ما حدث في جامعة كولومبيا الأميركية، من اعتصامات طلابية وصلت إلى حد قيام آلاف الطلاب في الجامعة بنصب خيم في قلب الحرم الجامعي في محاكاة منهم لما يحدث للفلسطينيين، وفي تأكيد لموقفهم الداعم للقضية الفلسطينية والرافض للوحشية الإسرائيلية وللموقف الرسمي الأميركي المساند لإسرائيل والداعم لها معنويا وماديا وعسكريا. أين الجامعات والطلاب العرب والشباب العربي مما يحدث في فلسطين التي كانت أبدا ودائما هي محور القضايا العربية، وهي القضية التي لطالما تذرعت بها المنظومة العربية الحاكمة لفرض سيطرتها على شعوبها، وهي، بالتحديد، القضية التي لطالما هوجم شباب الربيع العربي من أجلها، من قبل الأنظمة العربية ومؤيديهم، وللأسف، من قبل كثر من الفلسطينيين الذين اعتبروا الربيع العربي مؤامرة صهيونية لسحب البساط من تحت وهج القضية الفلسطينية العربية المركزية لصالح قضايا وطنية ضيقة تأخذ في الحساب مصلحة كل بلد على حدة لا المصلحة القومية الكبرى.
السؤال عن موقف الجامعات العربية والطلبة العرب مما يحدث، هو سؤال يمكننا اعتباره حاليا أكثر الأسئلة الوجودية إثارة للقلق من مستقبل المنطقة العربية الذي يبدو مرتبكا، أو لنقل إنه، ربما، يبدو غامضا ومبهما ذلك أن ما يرشح من الحاضر العربي يشي بقطع كل الأواصر العربية التي لطالما شكلت هوية قومية مشتركة تجمع أبناء هذه الأمة، لصالح هويات لا ترقى حتى أن تكون وطنية (تنتمي إلى وطن واحد)، فالشعوب العربية التي تعاني ما تعانيه من الحروب والانقسامات الحادة والانهيارات الاقتصادية المريعة والتردي المهول في الأحوال المعيشية والفساد العام الذي لم يترك شيئا لم يطله والفقر والتشرد واللجوء والموت والبحث عن أماكن صالحة للعيش الآدمي والاستبداد والقمع وكم الأفواه، هذه الشعوب نتيجة عجزها عن إيجاد حلول لأزماتها الوجودية الكبرى باتت تبحث عن بدائل هوياتية في محاولة منها للتوازن وللوقاية من الانهيار التام، لكن الهويات البديلة المطروحة تحولها شيئا فشيئا إلى شعوب غارقة في شوفينيات مهزومة أصلا، تتمثل في ادعاء الانتماء إلى حضارات منقرضة منذ آلاف السنين ولم يبق منها سوى الآثار التي تدل عليها، أو في الانتماء إلى هوية دينية لم تعد تقدم للحضارة الإنسانية أي جديد، وباتت مصدرا من مصادر الخوف والفوبيا لكثرة ما ارتكب من جرائم باسمها ومع ذلك مازال أصحابها يدعون بأنهم خير الأمم، أو هوية مذهبية وطائفية تجتر مظلوميات تاريخية وتبقي أصحابها في دائرة مغلقة من التقوقع والخوف من الآخر محملين بخطاب كراهية يضيف مزيد من الأزمات إلى أزماتهم المركبة أصلا، أو هوية طبقية تعيش في عالم منفصل عن باقي مجتمعاتها (عالم مواز كما يصطلح حاليا). ويعزز كل تلك الهويات البديلة أنظمة فاسدة ومستبدة وديكتاتورية وقمعية متخلفة تحمل منظومة ذهنية أصولية لا ينتج عنها سوى الفشل في إدارة الدول والمجتمعات، ولا ينتج عن هذا الفشل سوى مزيد من التخلف والتراجع والتقوقع في الهويات البديلة، والهروب من أي استحقاق حضاري يضع الحجارة الأساس لبناء مستقبل لهذه الأمة.
السؤال عن موقف الجامعات العربية والطلبة العرب مما يحدث، هو سؤال يمكننا اعتباره حاليا أكثر الأسئلة الوجودية إثارة للقلق من مستقبل المنطقة العربية الذي يبدو مرتبكا
منذ نكسة 1967 ثم استحكام سيطرة العسكر الذي استلهم تجارب ستالين وماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ مدعما بتأييد مؤسسة دينية لا مصلحة لها بأي انفراجة حضارية في مجتمعاتنا، تم تجريف الطبقة الوسطى العربية شيئا فشيئا من كل قيمها التاريخية، الطبقة الوسطى التي لطالما كان أبناؤها هم القاعدة الكبيرة للجامعات الوطنية، فبينما ترسل الطبقة البرجوازية أبناءها إلى جامعات أوروبا وأميركا كانت الجامعات الوطنية تستقبل أبناء الطبقات الوسطى والمتميزين من الطبقات الدنيا في المجتمعات العربية.
كانت الطبقة الوسطى بثقل قيمها وعددها هي الحامل الأول لأي تغيير، ولطالما كانت الجامعات هي مركز انطلاق كل حركات الاحتجاج الوطنية والتغييرية، وهو ما انتبهت له جيدا أنظمة الاستبداد العسكرية أو الأنظمة الرجعية في عموم بلادنا، فأغرقت الطبقة الوسطى بما سمته (الصحوة الإسلامية) التي نقلتها من حال إلى حال وغيرت في قيمها الوطنية شيئا فشيئا، وغيرت بالتالي من هويتها الوطنية لصالح الهوية الدينية، أكثر المتأثرين بهذا التغيير هم الأبناء الذين سيصبحون عماد الجامعات الوطنية لاحقا؛ إذا تم تفريغ هذه الطبقة شيئا فشيئا من ثقافتها الحضارية التاريخية بالتزامن مع استشراء الفساد السياسي والاقتصادي والمجتمعي، ومع إهمال التعليم الحكومي لصالح الجامعات الخاصة والدولية (مستثمروها هم بطانات الأنظمة الحاكمة والأكثر استفادة من الفساد المعمم).
هكذا أصبحت هذه الجامعات لزوم ما لا يلزم وغير معترف بشهاداتها في معظم دول العالم، أصبحت حرفيا مرتعا للتخلف والرجعية والرضوخ والقبول بالأمر الواقع والفساد، ليس فقط لدى طلابها بل لدى أساتذتها ومسؤوليها ومديريها، وطبعا لدى موظفيها الحكوميين (الأكثر فسادا في فئات المجتمع). لم يسلم من هذا الخراب سوى جامعات وكليات قليلة تم اختراقها تماما بعد هزيمة الربيع العربي واستعادة الأنظمة المستبدة لسيطرتها بطرق أكثر عنفا وإجراما.
ولعل أكثر الدلائل على انتفاد دور الجامعات العربية الوطني هو انطلاقة غالبية مظاهرات الربيع العربي من الجوامع بعد أن كانت الجامعات (في بدايات القرن الماضي) هي نقطة انطلاق كل المظاهرات الوطنية والاحتجاجية والمطلبية. وهو أيضا دليل على استبدال الهويات الوطنية بأخرى، ومهما تحدثنا عن الظروف التي جعلت الشباب المتظاهر يخرج من الجوامع، ومهما بررنا لهذا فإن السبب الرئيس هو التحييد الممنهج لدور الطلبة الجامعيين ودور الجامعات والتعليم العالي في أي عملية تغيير مجتمعية وسياسية، وهذا حدث عبر نشاط استبدادي طويل المدى بدعم من المؤسسات الدينية الفاسدة فساد السلطات الحاكمة التي لطالما اشتغلت على تدمير الطبقات الوسطى كما أسلفنا. ولعله من المفيد الآن الاعتراف أن بدايات كهذه للربيع العربي سوف تؤدي إلى ما أدت إليه من هزيمة كبرى طالت نتائجها كل مفاصل حياتنا، وليس الصمت العربي المريب تجاه ما يحدث في غزة وتواطؤ المنظومات الحاكمة مع العدو على تدمير غزة سرا وعلنا، ومنع أي حراك مهما كان بسيطا للتضامن مع فلسطين واعتقال من يقوم به حتى في الدول التي تدعي أنظمتها الانحياز لمعسكر المقاومة (سوريا والجزائر وتونس) كأمثلة فقط، سوى أحد نتائج هزيمة الربيع العربي الذي وقف ضده كثر من الفلسطينيين خصوصا حينما انطلق في سوريا بذريعة أن النظام السوري هو النظام الوحيد المقاوم ( أين هو مما يحدث منذ ستة أشهر في غزة؟ ). كما أن اختزال القضية الفلسطينية بقضية صراع ديني هو دليل مؤكد على الآلية التي تمت بها استبدال الهويات الوطنية عبر عقود طويلة.
بالنظر إلى كل ما سبق يبدو السؤال عن دور الجامعات العربية أو مقارنتها بما يحدث في جامعة كولومبيا في نيويورك هو سؤال عن مستقبل بلادنا بالتحديد، هذه البلاد التي تتراجع في كل أدوارها وتتخلى عن كل استحقاقاتها وتفشل حتى في تضامن بسيط مع قضية عادلة كالقضية الفلسطينية التي لطالما كانت هي القضية المحورية لأمة كاملة.