منذ انقلاب الخميني في إيران على حكم الشاه تحت عنوان الثورة الإسلامية، كان شعاره "تصدير الثورة"، الذي استفز الدول العربية المتاخمة له.
فالعراق والخليج دخلا معه في صراع دامٍ لأكثر من ثماني سنوات، كانت واجهته العراق، وانتهى بتجرع الخميني كأس السم في حرب انتهت بتعادل بطعم الخسارة. بعد ذلك، تحولت إيران من تصدير الثورة إلى شعارات أكثر رواجاً في المجتمع العربي والإسلامي، محاولةً تصحيح صورتها المتآكلة من حرب الخليج والعراق معها. وهذه الشعارات أتت لتداعب وجدان العرب والمسلمين، وليس سوى "القدس وتحرير الأقصى" كشعارين قادرين على هذا الاختراق. لكن لا يمكن أن ننسى في غمرة شعارات القدس والأقصى أن في خزانة طهران فضيحة "إيران غيت"، تلك التي كشفت عن صفقة تسليح لها من إسرائيل، التي تنادي يومياً عليها بالموت. بهذا "حصان طروادة"، استطاع حكام إيران تحقيق طموحاتهم التوسعية أخيراً.
مرحلة عصر القوة
الغزو الأميركي لأفغانستان بعد 11/9 كان نقطة تحول هامة. إذ إن إيران، التي تعتبر أميركا "الشيطان الأكبر" وتنادي عليها بالموت ليل نهار، قد دعمتها ضمنياً في عام 2001 باحتلالها لأفغانستان والإطاحة بحكومة طالبان. وذكر رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني في ذلك الوقت، حسين موسويان: "إن التعاون تم في إطار المصالح المشتركة لإيران والولايات المتحدة وهو الإطاحة بحكم طالبان".
وما إن حل عام 2003 وبدأ غزو الولايات المتحدة للعراق للقضاء على نظام صدام حسين حتى تكشفت مرة أخرى خيوط التعاون بينهما. لم ينسَ أحد تصريحات بول بريمر حول أحقية حكم الشيعة في العراق. ثم تتوالى الأحداث عاصفةً لتتسلم إيران مفاتيح العراق في توافق ضمني أو علني – لم تعد تفرق كثيراً – إذ إن زعيمة محور الممانعة لأميركا وإسرائيل، ستقاتل لاحقاً من هذا التاريخ تحت رايتها وراية التحالف الدولي ضد داعش في العراق وبتغطية جوية من الولايات المتحدة.
تتسارع الأحداث ويتم توقيع الاتفاق النووي بين الدول الغربية وإيران، ويبدو أن هناك بنوداً أو تفاهمات في الاتفاق أطلقت يد إيران وروسيا في سوريا واليمن. لتصبح إيران تحتل أربع دول عربية: لبنان، سوريا، العراق، واليمن، ناهيك عن نفوذها الفاقع لدى حماس في غزة. هذه الصورة أصابت محور إيران بالغرور وباتوا يتصرفون كدولة عظمى ذات طبيعة إمبراطورية.
حاولت إيران استغلال طموحات بايدن وفريقه الذي يميل لإيران وعلى رأسهم روبرت مالي، وحاولت تحقيق اختراق لعودة سريعة للاتفاق النووي، لكن ذلك لم يحدث.
حقبة الجمود وبداية الانهيار
إيران التي حققت حلمها التوسعي في حقبة أوباما تبدلت أحلامها إلى مخاوف مع بداية وصول دونالد ترامب بداية 2017. إذ إنه مزق الاتفاق النووي كأول عمل له، واستخدم سلاح العقوبات بفعالية قوية إذ وصلت الصادرات النفطية الإيرانية إلى الصفر أو حوله بقليل. فقامت بتعزيز قواعدها في العراق واستهدفت الوجود الأميركي فيه، ولكن الرد الصاعق لترامب جعلها تراجع حساباتها. لقد قام ترامب بتنفيذ أخطر عملية اغتيال؛ لقد اغتال قاسم سليماني، مهندس مشروع إيران التوسعي. فقامت بتجميد حركتها انتظاراً لتغير ما يمكن أن يحصل، وفعلاً خسر ترامب في انتخابات 2021 لتأتي ولاية بايدن التي اعتبرها الكثيرون – وهم محقون في ذلك – ولاية أوباما الثالثة سيما أن بايدن كان نائب أوباما.
حاولت إيران استغلال طموحات بايدن وفريقه الذي يميل لإيران وعلى رأسهم روبرت مالي، وحاولت تحقيق اختراق لعودة سريعة للاتفاق النووي، لكن ذلك لم يحدث. واندلعت الحرب الروسية الأوكرانية لتغير وجه أوروبا والغرب، وتبدلت أولويات الولايات المتحدة وأوروبا من ضبط إيران إلى تحجيم ثم القضاء على طموحات بوتين التوسعية في أوروبا. هذه الحرب خلطت الأوراق بشكل كبير جداً وأصابت العالم وسلاسل توريد الغذاء فيه بالعطب، ولكنها زادت متاعب إيران في انتظار اتفاق لن يحصل واضطرارها لمساندة بوتين في حربه بمده بالسلاح، وخاصة تقنية المسيرات، الشيء الذي أغضب الولايات المتحدة كثيراً وأوروبا أكثر.
لتأتي عملية 7 أكتوبر، والتي اختلف الكثير من المراقبين والمحللين في كونها إيرانية الصنع أو أنها خارج إرادتها، لكنها حصلت وانتهى الأمر وبُني على الشيء مقتضاه، وغيرت وبشكل عاصف وإعصاري وجه المنطقة والعالم. لكن الذي حصل في مرحلة حرب الإسناد من حزب الله اللبناني لم تتوقعه إيران ولم يأتِ في حسابات نساج السجاد العجمي ولا صبره الاستراتيجي المزعوم.
في داخل النظام، بدأت إيران بتوحيد صفها واقتلاع أصحاب الولاء النصفي. هي تريد مرحلة بولاء كامل. وما نراه من تصفيات لما يسمى مجلس الشعب والحجز على أموال حمشو وبقية رجالات المال وأثرياء حربها على الشعب السوري لن يتوقف.
خريف إيران بدأ في لبنان وماذا عن سوريا والأسد؟
انطلاقاً من عملية مقتل إبراهيم رئيسي الرئيس الإيراني ومن معه، بدأت تتحرك الرمال في المنطقة التي تعصف فيها حرب غزة وحرب إسنادها من حزب الله. وما إن استفاقت إيران وحاولت استيعاب ما جرى، حتى بدأت تلوح في الأفق حرب إسرائيلية على حزب الله. وفعلاً غاص حزب الله في الرمال المتحركة حيث انطلقت عمليات تصفية ممنهجة للحزب، تعززت بعملية "البيجر" واكتملت باغتيال نصر الله والصف الأول كاملاً. ومعها انطلقت عملية اجتثاث حزب الله، "جوهرة التاج الإيراني". ولكن ثالثة الأثافي عند إيران هي حدوث ما كانت تخشاه؛ فقد فاز ترامب المتعب لها والذي تسبب لها بالكثير.
فضاقت الخيارات لديها وهي ترى إرادة دولية – لا تعارضها روسيا – بقطع طرق الإمداد لحزب الله وتدمير قدراته في سوريا، بعد أن قامت بتدمير هذه القدرات أو كادت أن تفعلها في لبنان. مما جعلها تتحرك لالتقاط القطعة الثانية على رقعتها وشريان الحياة لحزب الله وقاعدة الإمداد لمشروع الهلال الشيعي، الذي سمته "وحدة الساحات". القطعة الثانية لم تكن سوى النظام السوري الذي أنقذته من السقوط وأنفقت أموالاً طائلة في سبيل بقائه إلى الآن.
الأيام القادمة تحمل الكثير من المفاجآت والتصفيات متعددة الجهات داخل نظام الأسد. ففي داخل النظام، بدأت إيران بتوحيد صفها واقتلاع أصحاب الولاء النصفي. هي تريد مرحلة بولاء كامل. وما نراه من تصفيات لما يسمى مجلس الشعب والحجز على أموال حمشو وبقية رجالات المال وأثرياء حربها على الشعب السوري لن يتوقف. فقد قررت إيران المواجهة في سوريا، وعلى حد زعمها لن تدع الحرب تتمدد إلى العراق واليمن كما تمددت إلى لبنان دون أن تستطيع فعل الكثير. لن تدع إيران الأسد ينجو وقد أخذت القرار بذلك وانتهى الأمر، وستمر المنطقة وخاصة سوريا بحرب عاصفة ستنتهي بانتهاء حقبة الأسد وبداية لعصر آخر على سوريا والسوريين. ومهما كان هذا العصر سيئاً أو غامضاً أو مجهولاً، فإنه لن يكون أسوأ وأكثر قتامة من زمن حكم الأسدين، وخاصة بشار، الذي دمر سوريا أرضاً وشعباً واقتصاداً. ولن نتورط في لعبة التوقيت، لكن نقول إن ذلك سيحدث، وسيحدث قريباً.