لطالما لاحظتُ اضطراباً شديداً لدى الكتّاب الغربيين عند الحديث عن أصول الإنسان العاقل Homo Sapiens.
هناك نظريتان متنافستان لتفسير أصولنا: الأولى تقول إن الإنسان العاقل انطلق من إفريقيا قبل مئة ألف عام وانتشر في كل أنحاء العالم. والثانية تقول إن الإنسان العاقل تطور على نحوٍ متوازٍ في مناطق مختلفة من العالم. يؤيد النظرية الثانية حقيقة أن الإنسان المنتصب Homo Erectus قد غادر إفريقيا قبل نحو مليوني سنة وهو مؤهل بقوة ليكون السلف المشترك لكلّ سكّان أوراسيا. لكن الغربيين يتحرّجون عموماً من النظرية الثانية خشية استخدام البعض لها لأغراضٍ عنصرية. فأن نقول إن الإنسان العاقل تطور على نحوٍ مستقلّ في عدة مناطق على سطح الأرض فنحن بذلك نقسّم النوع العاقل إلى ثلاثة أنواعٍ على الأقل: الإنسان العاقل في الصين وجوارها (إنسان بكّين)، الإنسان العاقل في الشرق الأوسط وجواره، والإنسان العاقل الإفريقي.
كما أن اعتماد نظرية الأصول المتعددة يترك الغربيين في منأى عن ملحمة التطور الإنساني الرائعة. فأوروبا عبر العصور القديمة لم تشتهر أبداً كوطنٍ للإنسان العاقل، بل لإنسان النياندرتال، وهو نوع إنساني بدائي عاش في أوروبا في جماعاتٍ صغرى لمئات آلاف السنين ثم انقرض تدريجياً بسبب البرد على الأغلب، فهو لم ينجح ببناء حضارة، ولم يتطور عقله حتى للحدّ الكافي كي يساعده على صناعة الملابس التي تقيه من البرد.
ومن ناحيةٍ ثانية تشير الدلائل الأثرية المتراكمة ودراسات الدي إن إيه الحديثة وحفريات اللغات القديمة أن الإنسان العاقل انطلق ربما من منطقة سوريا الكبرى، أو ما يعرف باسم (الهلال الخصيب) حيث انتشر بالتدريج من هذه البقعة المتوسطة من الأرض إلى كل أنحاء العالم وخصوصاً أوروبا وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى والهند (إذا سلّمنا أن الصين وإفريقيا كان بهما كفايتهما من الأنواع البشرية التي تطورت محلياً).
إن الوطن الأصلي للإنسان العاقل الذي عمَر الشرق الأوسط وأوروبا هو تلك المنطقة من الهلال الخصيب التي شملت سوريا وفلسطين والأردن ولبنان وجنوب الأناضول وشمالي العراق وغربي إيران. ثم بعد ذلك بإمكاننا الحديث عن انتشار متدرّج نحو عالم البحر المتوسط بما يشمل شمال إفريقيا وجنوب أوروبا. أما أوروبا ذاتها فلم ينتقل إليها الإنسان العاقل إلا في فترةٍ "حديثة" نسبياً صارت تعرف بوصفها أول هجرة عمدية منظمة في تاريخ الجنس البشري.
يشرح عالم الآثار الأسترالي بيتر بيلوود تلك الهجرة في كتاب The Five Million Year Odyssey الذي لم يترجم للعربية بعد. يقول بيلوود إن الإنسان العاقل اكتشف الزراعة في منطقة الهلال الخصيب عام 10 آلاف قبل الميلاد. أدى اكتشاف الزراعة وتخزين الطعام إلى نوع من الانفجار السكاني وخصوصاً في شمالي سوريا وجنوبي الأناضول. ولذلك فعندما صنع الإنسان العاقل الفخار نحو عام 6 آلاف قبل الميلاد فإن أول شيء قام به هو أنه حمل بذوره وطعامه معه وبدأ بالرحيل. وهكذا بين عامي 6 آلاف و 4 آلاف قبل الميلاد انطلقت من منطقة سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب موجات من الهجرة قام بها الإنسان العاقل الفلّاح ووصلت غرباً إلى كل أنحاء أوروبا بما فيها إيرلندا والدول الاسكندنافية، وشمالاً حتى سواحل البحر الأسود، وجنوباً إلى كل مناطق شمالي إفريقيا بما في ذلك مصر والسودان، وشرقاً حتى آسيا الوسطى وصولاً إلى ضفاف نهر السند في شبه القارة الهندية.
من الناحية الجينية إذاً ينتمي كل سكان هذا الجزء المركزي من العالم إلى منطقة سوريا الكبرى (الهلال الخصيب.) ليس ذلك فحسب، بل إن تلك الجماعات القديمة من المزارعين نقلت معها لمّا سافرت لغتها البدائية الأولى proto language لتصبح على مر القرون الأصل المشترك لما بات يعرف لاحقاً باسم اللغات الهندو-أوروبية والتي يجب أن تسمّى عن حقّ لغات الهلال الخصيب أو لغات سوريا الكبرى. وما يطلِق عليه المؤرخون تسمية العرق القوقازي ما هو في الحقيقة إلا العرق السوري أو إنسان الهلال الخصيب. وهذه كلّها من المفاهيم التاريخية التي تحتاج إلى مزيدٍ من الضبط والتوضيح بعيداً عن الأهواء الشخصية أو النزعات القومية.
أخيراً، ليس للإنسان فضلٌ في أن مصادفات الطقس والجغرافية جعلت هذه المنطقة أو تلك من العالم منطلقاً للجنس البشري والحضارة الإنسانية وكل ما على الإنسان أن يقوم به هو أن يحذر من التمركز على الذات ويؤمن ليس فقط بوحدة الإنسانية بل بوحدة الحياة برمّتها على سطح الأرض وأن يجعل هذا الفهم الواسع - وخصوصاً في حالتنا نحن السوريين - معيناً له على الاندماج في الناس والأماكن أينما ارتحل متمثلاً قول الصوفية: المقام واسع وربّ الدار كريم.