نفت واشنطن المعلومات التي تحدث عنها موقع "مونيتور" الأميركي، في تقرير له أعقبه بعد ذلك بأيام أنباء لمجلة "فورين بوليسي" تتحدث عن احتمال انسحاب القوات الأميركية من سوريا، في إطار خطة طرحها البنتاغون على شركائه في "قوات سوريا الديمقراطية" تتضمن تفاهمات وتسويات سياسية وأمنية مع النظام في دمشق.
لم يسقط أحد في مصيدة القط والفأر التي حاولت "المونيتور" و"فورين بوليسي" لاحقا استدراج البعض إليها. الكل نفى ما قيل وكتب وأعلن باستثناء المروجين لهذه المادة. ترويج دعائي للأطراف التي تدافع عن بقاء القوات الأميركية في سوريا ليس أكثر.
ليست واشنطن وحدها التي نفت مثل هذه الأنباء. العديد من اللاعبين المحليين والإقليميين استبعدوا مثل هذا السيناريو وسط التطورات الإقليمية المتلاحقة والمرتبطة بأكثر من تصعيد على أكثر من جبهة، بعد انفجار الوضع في قطاع غزة قبل أشهر.
لا تمنح التوازنات الإقليمية الحالية واشنطن فرصة التفوق السياسي والعسكري الذي يسهل لها اتخاذ قرار من هذا النوع. انسحاب مهين من أفغانستان يحول دون تحرك الإدارة الأميركية باتجاه مغامرة جديدة من هذا النوع وهي تعد نفسها لمعركة الانتخابات الرئاسية. لماذا تغادر القوات الأميركية شرق الفرات؟ وهل أنجزت مهمتها المعلنة في الحرب على تنظيم داعش وحسمت مسألة آلاف المعتقلين في سجون تشرف عليها "قسد" دون أي غطاء أو تفويض قانوني يمنحها هذا الحق؟
كان مظلوم عبدي يقول لـ امبرين زمان كاتبة المادة نفسها في موقع "المونيتور" في تشرين الثاني 2021 إن "مطلبنا الأساسي في سوريا هو الاستفادة من الوجود الأميركي للوصول إلى حل سياسي يعطينا ما نريد وأن تبقى القوات الأميركية هناك إلى أن يتم تحقيق هذا الهدف". عبدي هو الذي يواجه واشنطن بحقيقة هدف الشراكة: محاربة مجموعات داعش ليس الهدف الأول بقدر ما هناك أهداف سياسية أكبر وأهم لشريك واشنطن المحلي في سوريا. فكيف ولماذا تسحب واشنطن جنودها من شرق الفرات وتحاول كما يقول المثل التركي تبديل الفرس وهي تعبر مياه النهر الجارف؟
لا انسحاب أميركيا ولا تبديل في سياسة واشنطن قبل أن تأخذ ما تريده عبر شركائها المحليين في قسد وتقدم مشروعهم الكونفدرالي في سوريا على الطريقة العراقية
رفضت المؤسسات الأميركية العسكرية والاستخبارية والسياسية أكثر من مرة مناقشة سيناريو الانسحاب الأميركي من سوريا. ليس لأن الحرب على مجموعات داعش لم تحسم بعد، بل لأن الأسباب والأهداف الأميركية الحقيقية هناك لم تتحقق. هدف الترويج لأنباء من هذا النوع هو إذن تسهيل وصول الرسائل الأميركية للأطراف المحلية والإقليمية المؤثرة في الملف السوري. لا انسحاب أميركيا ولا تبديل في سياسة واشنطن قبل أن تأخذ ما تريده عبر شركائها المحليين في قسد وتقدم مشروعهم الكونفدرالي في سوريا على الطريقة العراقية.
السيناريو الوحيد الممكن مناقشته وهو بين الاحتمالات الضعيفة أيضا، أن تكون الإدارة الأميركية دخلت في عملية تسوية ومقايضات مع أنقرة بعد أخذ ما تريده في موضوع تسريع قبول عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي من الجانب التركي. لا مؤشرات ملموسة بهذا الخصوص أيضا طالما أن التركيز في أنقرة وواشنطن هو على مسألة صفقة المقاتلات إف 16 لتركيا وضرورة إقناع الكونغرس بعدم عرقلتها. قد يتطور النقاش بين أنقرة وواشنطن إلى تبني سيناريو الانسحاب الأميركي من سوريا. لكنه حتى ولو حدث ذلك فهو لن يكون لصالح تركيا لأن المروجين لهذا الاحتمال يرددون أنه سيكون باتجاه صناعة تقارب بين "قسد" والنظام في دمشق على حساب ما تقول وتريد أنقرة.
ما يقرب "قسد" من النظام في دمشق هو سياسة تركيا السورية. معادلة تتحرك موسكو وطهران لإقناع أنقرة بخطورتها على سياستها ومصالحها هناك، مع عرض البديل الأهم والأقوى وهو قبول تركيا الجلوس إلى طاولة التفاوض مع بشار الأسد ولكن دون نتيجة حتى الآن. فهل يملك النظام السوري الشجاعة الكافية للدخول في مشروع أميركي من هذا النوع ويترك موسكو تتفرج؟
ليس مقنعا أن يكون الإعلام الذي كان يردد قبل أسابيع أن الحرب في غزة أجبرت الإدارة الأميركية على تسريع تفعيل خطط التموضع الإقليمي والعودة إلى قلب المنطقة، هو نفسه الذي يروج اليوم لأنباء وخطط الانسحابات الأميركية من سوريا والعراق. فهل تترك إدارة بايدن التي أعلنت الاستنفار العسكري والسياسي الواسع في المنطقة بعد اندلاع الحرب في غزة وحركت أساطيلها وزادت حجم الدعم لإسرائيل واليونان وقبرص اليونانية في شرق المتوسط، لروسيا وإيران وتركيا كي تتقاسم إدارة الملفات في الإقليم وترسم مستقبل وتحدد مصير حلفاء أميركا الذين يراهنون عليها منذ سنوات؟ ولماذا تقبل واشنطن التي أعلنت أنها ستواصل محاربة فلول داعش في سوريا والعراق عبر إرسال مئات الأطنان من السلاح والدعم العسكري والسياسي والمادي لشريكها مجموعات "قسد" رغم انكشاف أهدافها أمام أنقرة وطهران وموسكو ودمشق، بفكرة الانسحاب من البلدين بعد كل ما بذلته من جهود في الأعوام الأخيرة على طريق الوجود أمام طاولة التوازنات في التعامل مع ما يجري هناك؟
التحرك العسكري التركي الأخير في شمال شرقي سوريا ضد مواقع وكوادر "قسد" واستهداف البنى التحتية لمنظومتها، يعني أن أنقرة لن تقبل بعرض أميركي من هذا النوع تريده واشنطن منفتحا على تعديلات دستورية وبنيوية أساسية في سوريا توفر الاستقلالية والحكم الذاتي لقسد. قد تلتقي أهداف أنقرة أكثر مع تحرك النظام في دمشق بعد تصعيده ضد هذه المجموعات في موضوع تشديد الحصار ودعم بعض العشائر العربية في دير الزور والحسكة. لكن أنقرة لن تغامر وتهدر ما بنته من علاقات مع شركاء وحلفاء محليين وإقليميين تنسق معهم اليوم في الملف السوري. واشنطن التي تعرف كل هذا لن تغامر بسحب قواتها من شرق الفرات وتسهل للاعب الإيراني والروسي إعلان انتصار ساحق على واشنطن بعد ما جرى في كابل؟
إيران تستعد لمواجهة أصعب وأطول للدفاع عن مصالحها في المنطقة، فلماذا تسهل لها واشنطن المهمة من خلال خطوة "انتحارية" مثل الانسحاب من سوريا أو العراق في هذه الآونة؟
كلما واجهات واشنطن المزيد من الضغوطات العربية والإقليمية لتبديل سياستها الإسرائيلية والتخلي عن هذا الانحياز الواسع لتل أبيب، تمسكت أكثر فأكثر بالورقة الكردية في المنطقة لتلعبها كفرصة توازن استراتيجي يحمي مصالحها في سوريا والعراق. الحديث عن توحيد الجبهات مقابل رغبة البعض بتوسيع رقعة المعارك في المنطقة يتعارض تماما مع الأنباء التي تتحدث عن انسحابات أميركية من سوريا. نقل المواجهات إلى جبهات لبنان وسوريا والعراق قد يخدم المصالح الأميركية أكثر من إبقاء المواجهات محصورة على جبهات غزة. قد يتحول ذلك إلى فرصة استراتيجية إقليمية لواشنطن فلماذا تفرط بها؟ الأوراق الإسرائيلية والكردية هي في طليعة الأحجار التي يمكن لواشنطن تحريكها في مواجهة روسيا وتركيا وإيران وبعض الدول العربية، فلماذا تفرط بالجغرافية السورية بمثل هذه السهولة وتغادر؟ قرار طهران رفع مستوى الدعم العسكري والتسليح النوعي لحلفائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن يعني أن إيران تستعد لمواجهة أصعب وأطول للدفاع عن مصالحها في المنطقة، فلماذا تسهل لها واشنطن المهمة من خلال خطوة "انتحارية" مثل الانسحاب من سوريا أو العراق في هذه الآونة؟ وما هي المقايضات والتفاهمات التي حصلت عليها الإدارة الأميركية في البلدين والتي تدفعها لاتخاذ قرار يتعارض تماما مع كل حساباتها ومصالحها في الإقليم؟
الحرب في غزة تدفع أميركا للتصلب أكثر في سياستها الإقليمية وعلى رأسها التمسك بالبقاء العسكري في سوريا والعراق. وقرار واشنطن زيادة الدعم العسكري لشركائها في سوريا هدفه التمسك بسياستها السورية الحالية رغم كل التصعيد التركي الإيراني الروسي هناك.