بعد أن بدأت الطبقة السياسية السورية عبر الأحزاب والتيارات والشخصيات الوطنية وغيرها من القوى المدنية والفكرية تشكل هويتها السياسية والاجتماعية لمرحلة ما بعد الاستقلال، شاب هذه العملية نوع من التباين وإن أمكن القول الانقسام المجتمعي، بسبب ما ورثته طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة التي خلقت في المجتمع السوري طبقتين: الطبقة الحاكمة التي تملك جميع أموال الدولة وتتحكم في سياساتها الداخلية والخارجية وتصوغ القوانين وتعرّف مصطلحات العدالة والحرية والديمقراطية بالشكل الذي يتناسب معها ومع حاضنتها الشعبية، والطبقة الأخرى التي تعيش حالة من الغربة ضمن وطنها لكونها لم تستطع ببساطة المشاركة في بناء قوانينه ومفروض عليها القبول بسياسات الأمر الواقع.
هذا التصنيف؛ لازم أشكال الدولة السورية في كل مراحلها، إذ تشكلت طبقة مستفيدة وطبقة أخرى بعيدة عن كل اعتبارات الدولة، وفي حين وكلت الطبقة المستفيدة نفسها على مصالح الشعب من منطلق حكم الأيديولوجيا لا حكم الدولة والقانون، كان دائما يغيب مفهوم العدالة الذي كان أكثر ما يحتاجه المجتمع بعد حقبة الاستعمار الفرنسي، على الرغم من أن معظم هذه النخب والنظم السياسية كانت تحمّل "قميص" العدالة شكلاً دعائياً سياسياً لا قناعة عميقة في تحقيق العدلة، ولذلك كنا نرى التذبذبات السياسية وتغير النظم بسبب حالة الاغتراب بين الطبقة الحاكمة والشعب.
يوضح لنا مسار "العدالة" إن صح التعبير الذي حاولت أن تعمل عليه الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة، أن مفهوم العدالة إلى يومنا هذا متشابه في الصفات وطريقة التنفيذ وهي تشبه العدالة التي كانت تستخدم في المجتمعات القديمة عندما كان يسود قانون العين بالعين والسن بالسن؛ ومن أبرز سلبيات مساعي تحقيق "العدالة" المفصلة على قياس الحكم التي سعت كل فئة من القوى المتصارعة على السلطة تطبيقها بمفردها، خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في آلية عمل مؤسسات الدولة وكانت السبب الرئيسي في فتح المجال للعديد من الانقلابات العسكرية التي شهدتها الدولة السورية، هذه الانقلابات التي جاءت نتيجة للفجوة بين المجتمع والسلطة، وهي ذاتها التي أوصلت في نهاية المطاف حافظ الأسد إلى السلطة بعد قيامه بانقلاب عسكري على رفاق دربه عام 1970 وبسط سيطرته المطلقة على جميع مفاصل الدولة السورية.
قبل العام 1970 عاشت سوريا حالة من الانقلابات العسكرية المتتالية وكان الجيش هو اللاعب الرئيسي والأقوى في التأثير على السياسة السورية، ففي العام 1951 تم فرض الاستقالة على ناظم القدسي رئيس حزب الشعب -آنذاك- من رئاسة الوزراء وتشكيل حكومات ائتلافية ضعيفة لم تدم طويلًا، بدأت بحكومة خالد العظم التي استقالت بعد رفض البرلمان لمشروع الموازنة العامة للدولة. تلتها حكومة حسن الحكيم التي استمرت ثلاثة أشهر قبل أن تفقد دعم البرلمان. ثم جاءت حكومة زكي الخطيب التي استقالت بعد خمسة عشر يوماً فقط.
قبل العام 1970 عاشت سوريا حالة من الانقلابات العسكرية المتتالية وكان الجيش هو اللاعب الرئيسي والأقوى في التأثير على السياسة السورية
عاد حزب الشعب إلى السلطة بترشيح معروف الدواليبي لرئاسة الوزراء، لكن رفض الدواليبي لتدخل الجيش في الحكومة أدى إلى اعتقاله، الأمر الذي مهد الطريق لانقلاب الشيشكلي الثاني. بعد ذلك حاول الرئيس هاشم الأتاسي التوسط بين النظام السياسي والجيش، لكنه فشل واستقال.
حينها قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة حل مجلس النواب والمحكمة الدستورية العليا والأحزاب السياسية وأعلن حالة الطوارئ وعين فوزي السلو رئيسًا مؤقتا بسلطات تشريعية وتنفيذية مطلقة، كان يرافق جميع هذه العمليات الانقلابية التي شهدتها سوريا تعديلات شاملة على القوانين والتشريعات النافذة، وكانت تقوم الفئة التي سيطرت على السلطة باعتقال معظم خصومها وتعيين المقربين منها في المراكز الحساسة للدولة لضمان عدم الإطاحة بها، وحل مفهوم الولاء مكان مفهوم الكفاءة للترقي ضمن مؤسسات الدولة ولم تقتصر سيطرة الفئة المنتصرة على الحياة السياسة والعسكرية للدولة بل شملت أيضا السيطرة على جميع ثروات المجتمع الاقتصادية ومحاولة تحويلها إلى أموال شرعية من خلال إرسالها إلى خارج الوطن لضمان الحفاظ عليها في حال تمت الإطاحة بهذه السلطة.
بعد انطلاق شرارة الثورة السورية في آذار 2011، بدأت تتضح العديد من الحقائق التي لم يكن يدركها غالبية المجتمع السوري إذ إن السلطة الحاكمة لعقود لم تقم فقط بالسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والأمنية والدينية في المجتمع، ولكن كانت تقوم بالسيطرة بشكل تام على جميع مفاصل الاقتصاد السوري وتقوم شخصيات السلطة الأساسية بإرسال أموال السوريين إلى الخارج لضمان الحفاظ عليها في حال الإطاحة بها، ومن أبرز هذه الشخصيات التي استنزفت اقتصاد الدولة السورية لعقود طويلة رفعت الأسد الشقيق الأصغر لحافظ الأسد وهو المسؤول عن مجازر حماه عام 1982 حين كان قائدا لسرايا الدفاع التي كانت تملك صلاحيات مطلقة على جميع الأراضي السورية، وأسس لاحقا بعد خروجه من الحكم امبراطوريات مالية ضخمة في العديد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وسويسرا وبريطانيا، بل شملت استثماراته العديد من المجالات العقارية والشركات القابضة بالإضافة إلى العديد من الحسابات البنكية المتخمة بالمال.
عند خروج رفعت من سوريا بعد الخلاف مع أخيه حافظ خرج ضمن صفقة سياسية شاملة حاصلاً خلالها على مبالغ طائلة من ميزانية الدولة وكانت السبب في انهيار الليرة - آنذاك - أمام الدولار.
رفعت الأسد لم يكن الشخصية الوحيدة، بل يضاف إليه شخصية أكثر نفوذا وسيطرة على الاقتصاد السوري وهو محمد مخلوف شقيق زوجة حافظ الأسد الذي تمكن بحكم علاقته مع الأخير من إدارة العديد من المؤسسات الحكومية السورية وعلى رأسها مؤسسة التبغ التي سيطر عليها بالمطلق وكانت البوابة أمام بناء إمبراطوريته المالية، ومن ثم شغل منصب مدير المصرف العقاري الحكومي السوري.
جمع مخلوف خلال تلك السنوات كمية غير معروفة من أموال الدولة لحسابه الخاص وقام بتوريث إمبراطوريته الاقتصادية الى ابنه بعد وصول بشار الأسد الى السلطة عام 2000 وأصبح رامي مخلوف رجل سوريا القوي والمتحكم بالاقتصاد السوري بشكل كامل.
عند خروج رفعت من سوريا بعد الخلاف مع أخيه حافظ خرج ضمن صفقة سياسية شاملة حاصلاً خلالها على مبالغ طائلة من ميزانية الدولة وكانت السبب في انهيار الليرة أمام الدولار
بين عامي 2000 و2010، شهد الاقتصاد السوري عدة تحولات والتي كانت مزيجاً من محاولات الإصلاح والتحديات الهيكلية إذ تم العمل على تحرير الاقتصاد تدريجيا وتشجيع الاستثمارات الأجنبية من خلال إصدار عدة قوانين لتسهيل الاستثمار من قبل الشركات الأجنبية كما تم أيضًا تخفيف القيود على القطاع المصرفي مما سمح بإنشاء بنوك خاصة لأول مرة منذ عقود وعملت الدولة أيضا على فتح المجال للقطاع الخاص بالمشاركة في قطاعات كانت سابقا محتكرة من قبلها فقط وعلى الرغم من بعض محاولات الإصلاح الاقتصادي في بداية حكم بشار الأسد فإنه و بسبب تفاقم الفساد والبيروقراطية ضمن مؤسسات النظام ظهر في سوريا عدد من الشخصيات التي سيطرت على الاقتصاد بشكل كامل أمثال رامي مخلوف ,محمد حمشو, عائلة شاليش و عائلة الأخرس.
بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011 دخلت البلاد في حالة من الصراع والحرب على مدار الأعوام الماضية وانخرطت جميع مكونات المجتمع المختلفة في هذا الصراع المسلح وكانت جزءًا منه، وتقاسمت السيطرة على ثروات البلاد خلال هذه المرحلة العديد من الشخصيات والقوى المسلحة التي سخرت هذه الثروات لمصالحها الشخصية وقامت ببناء ثروات طائلة من شأنها التأثير على صناعة القرار السوري المستقبلي.
في سوريا على مدار عقود من الزمن شهدنا سيطرة الفئات المنتصرة على مصادر الاقتصاد مما أدى إلى تركز الثروة في أيدي قلة من الأشخاص في حين بقيت الأغلبية تعاني من الفقر والتهميش.
هذه "الجيوب" الاقتصادية التي تشكلت عبر الزمن في سوريا نتيجة لتزاوج المال بالسياسة، ظلت مشكلة حقيقية لم تخضع للرقابة أو حتى النقاش، لأن أي حديث عن هذه الفئات يقودنا إلى جوهر الموضوع وهو العدالة الاقتصادية، التي باتت مسألة تعني كل سوري في الداخل أو الخارج وخصوصا في هذه المرحلة أكثر من أي مرحلة أخرى.
إحدى الخطوات الحيوية لتحقيق العدالة الاقتصادية هي استرداد الأموال المسروقة إذ إن العديد من الشخصيات البارزة في الفساد ونهب مال الدولة قامت بتحويل أموالها إلى حسابات مصرفية أجنبية واستثمارها في عقارات وأصول أخرى في دول مثل الإمارات العربية المتحدة، وروسيا، ولبنان وتركيا ودول عديدة كما تم استخدام هذه الأموال لبناء شبكات دعم سياسية واقتصادية تساعد في ضمان بقاء نفوذهم على المدى الطويل بغض النظر عن طريقة الحل في سوريا. من جهة أخرى تم استثمار جزء من هذه الأموال في الداخل السوري في مشاريع عقارية وصناعية تخدم مصالح هذه الشخصيات والقوى بما يضمن لها استمرار السيطرة الاقتصادية والسياسية.
على مدار عقود من الزمن شهدنا سيطرة الفئات المنتصرة على مصادر الاقتصاد مما أدى إلى تركز الثروة في أيدي قلة من الأشخاص بينما بقيت الأغلبية تعاني من الفقر والتهميش
إن كان هناك حديث عن أي عدالة انتقالية في أي حقبة مقبلة في سوريا، وربما هذا صعب الآن، فلا بد من التركيز على تعقب هذه الأموال والتواصل مع الجهات الدولية من أجل استرجاعها ووضعها في خدمة بناء مؤسسات الدولة والعمل على تحديث وصياغة قوانين جديدة لتسهيل عملية استردادها والعمل الجاد على مبدأ المحاسبة والشفافية وإنشاء هيئات رقابية مستقلة لمراقبة عملية استرداد الأموال وضمان استخدامها في مشاريع تنموية تهدف إلى إعادة بناء البنية التحتية وتحسين الخدمات العامة وتعزيز الاقتصاد المحلي والمؤسسات التعليمية والصحية.
ليس ابتكاراً القول؛ إن الاقتصاد يعتبر العامل الأساسي في تحريك عجلة بناء الدولة والنهوض بالمجتمع وينبغي أن تكون العدالة الاقتصادية هي الخطوة الأولى والركيزة الأساسية نحو بناء الدولة والمدخل للمحاسبة والحل في سوريا من أجل إعادة بناء الثقة من جديد بين أطراف الشعب السوري، لأن تحقيق العدالة الاقتصادية هو خطوة حاسمة لبناء دولة تتساوى فيها الحقوق وتزدهر فيها التنمية، إن العدالة ليست مجرد تطبيق للقوانين، بل هي نظام اجتماعي يهدف إلى تحقيق السلم الداخلي وضمان حقوق وكرامة الأفراد، وفي حين قد تختلف أشكال العدالة والغايات منها باختلاف المجتمعات، تظل العدالة الاقتصادية هي النموذج الأمثل لتحقيق التنمية والاستقرار وبناء الأوطان على أسس قوية ومستدامة، ومن أجل تحقيق هذا النوع من العدالة في سوريا يتعين علينا أولاً الإيمان الكامل بأهمية العدالة الاقتصادية والعمل على تطوير آليات تساعد في تسريع هذه العملية من أهمها الإصلاح القانوني والتعاون الدولي والمحاسبة والشفافية بإعادة توجيه هذه الأموال نحو مشاريع تنموية تعزز من جودة الحياة وتوفر فرصاً متساوية للجميع من أجل تحقيق حياة كريمة وازدهار في الوطن.
وعلى الصعيد الدولي هناك العديد من الدول التي طبقت مفهوم العدالة الاقتصادية لإعادة بناء البلد بعد حالات من الصراع مثل رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994 إذ ركزت الحكومة على المصالحة الوطنية والعدالة الاقتصادية وتقديم دعم اقتصادي للمجتمعات المتضررة وقامت بتنفيذ سياسات تهدف إلى تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتقليل الفقر مع التركيز على تمكين المرأة وتعزيز المساواة.
كما طرحت الحكومات العراقية المتعاقبة على السلطة بعد عام 2003 تنفيذ برامج لإعادة الإعمار والبناء الاقتصادي مع التركيز على توزيع عادل للثروات والموارد، ولكن لم تستطيع تنفيذ أي من هذه المقترحات بسبب الحالة السياسة المعقدة للبلد وسيطرة أطراف معينة على صناعة القرارات بها.
لقد عاشت الدولة السورية خلال عقود من الزمن ضياعا شبه كامل في رسم سياسات تؤدي إلى بناء مجتمع متساوٍ بالحقوق والواجبات. لم تستطع مؤسسات الدولة منح فرص متساوية لجميع أفراد المجتمع، كما أنها لم تقم بتوزيع الثروات بشكل عادل. لذلك، شهدنا خلال عقود طويلة وجود طبقتين في هذا المجتمع: الأولى تملك السلطة والأموال، والثانية لا تملك شيئًا. كان هذا الشرخ بين فئات المجتمع السبب الرئيسي في قيام الثورة عام 2011. لذا لا بد من العمل اليوم من أجل بناء وطن يجمع كل السوريين بحقوق وواجبات متساوية.
عاشت الدولة السورية خلال عقود من الزمن ضياعا شبه كامل في رسم سياسات تؤدي إلى بناء مجتمع متساوٍ بالحقوق والواجبات
العدالة الاقتصادية تعني التوزيع العادل والمنصف للثروات والموارد في المجتمع، ليتمكن جميع الأفراد من تحقيق مستوى معيشي لائق والحصول على فرص متساوية لتحقيق النجاح والازدهار. تشمل العدالة الاقتصادية جوانب مثل الأجور العادلة الفرص الوظيفية المتساوية الرعاية الصحية والتعليم للجميع وتقليل الفجوات بين الأغنياء والفقراء.
تهدف السياسات التي تعزز العدالة الاقتصادية إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل يسهم في تحسين حياة جميع أفراد المجتمع. بالتالي فإن العمل من أجل تحقيق العدالة الاقتصادية يعد خطوة أساسية لبناء وطن يجمع كل السوريين بحقوق وواجبات متساوية، ويسهم في تحقيق الاستقرار والتقدم للمجتمع ككل.
يعد تحقيق العدالة الاقتصادية في سوريا هدفًا حيويًا لا يمكن تجاهله في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحالية. ورغم المخاطر والتحديات المتعددة، من تدهور البنية التحتية، والتوترات السياسية المستمرة، والفساد المستشري كما أن العمل على مثل هذه الفكرة يصطدم بعقبات كبيرة، مثل إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية، وتأمين التمويل اللازم، ومواجهة التحديات السياسية والأمنية.
يبقى هذا الهدف ضروريًا لإعادة بناء اقتصاد قوي ومستدام. إن العدالة الاقتصادية ليست مجرد مسألة توزيع للثروة، بل هي ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والحد من التفاوت الاقتصادي، وتعزيز فرص التنمية المستدامة. لذا، فإن التركيز على سياسات اقتصادية عادلة وشاملة يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية تمتد إلى جميع قطاعات المجتمع، مما يمهد الطريق لبناء مستقبل أفضل وأكثر استقرارًا لسوريا وشعبها.