هل أتاك حديث شاغوس؟

2022.11.29 | 06:17 دمشق

جزيرة تشاغوس
+A
حجم الخط
-A

هل أتاك حديث شاغوس؟ أعلم أنه لم يأتك، أما أنا فأتاني توّاً! وها أنا أنبّئك به.

إنها جزيرةٌ صغيرة في المحيط الهندي بعيدةٌ عن كل بقاع المعمورة، وكي تستوعب كم الجزيرة بعيدة انظر في ويكيبيديا، التي لا يجد محرروها طريقةً لوصف موقعها على الخريطة إلا بإيراد أنها تبعد عن جزر المالديف مسافة 500 كيلومتر!

كان يسكن في جزيرة شاغوس ألفا إنسان تواطأت ضدهم قوّتان عُظميان هما بريطانيا وأميركا وطردتهم من جزيرتهم لإقامة قاعدةٍ عسكريةٍ أميركية فيها.. تعرّض السكّان المطرودون لمِحنٍ خطيرة في المنافي الجديدة، حيث "ماتت 26 عائلة في فقر مدقع، وأقدم تسعة أفراد على الانتحار، في حين أرغمت الفتيات على امتهان الدعارة للنجاة".

حصل ذلك ستينيات القرن الماضي وما تبقى من الشاغوسيين فهم ما يزالون يحاولون العودة إلى أرض أجدادهم عن طريق الترافع ضد بريطانيا وأميركا في محكمة العدل الدولية. ستقول لي من أين أتيت بهذه القصة؟ وما هي مناسبة الكلام؟

أقول: ساقني ولعي بالكتب والكتّاب إلى حضور لقاءٍ مع كاتبةٍ فرنسية لها أصول من جزر موريشوس القريبة من جزيرة شاغوس، كما أن جدتها لأمها هي واحدةٌ من الألفي شاغوسيّ الذين تعرضوا للنفي القسري قبل ستين سنة. تبنت تلك الكاتبة الباريسية قصة جدتها الشاغوسية وألفت روايةً بعنوان: (شطآن الغضب) استلهمت حبكتها من محنة شعب جزيرة شاغوس، ثم ساهمت مع زملاء لها في إنتاج فيلمٍ وثائقيٍ عن الجدّة واثنتين من أترابها نتعرف من خلاله إلى كامل قصة شاغوس وملابساتها منذ ما يزيد على نصف قرنٍ إلى اليوم.

بينما شاغوس الأصلية تقع في منأى عن كل بقاع المعمورة، فإن شاغوس سوريا تقع في قلب العالم، عند ملتقى القارّات وهي محطّ أنظار الكبير والصغير من دول العالم. ولذلك فإن "شاغوساتنا" مشهورة ونقلتها كل شاشات العالم، أحياناً على الهواء مباشرةً. بل إن أميركا التي كانت البطل الشرير في قصة شاغوس الأولى ما تزال لليوم بطلاً شريراً لشاغوسات أخرى في سوريا

أحزنتني فاجعة شاغوس كثيراً واحترمت ضمير الكاتبة الذي استنهضته هذه القصة الأليمة لمّا عرّفها بها القدر عن طريق جدتها التي كانت بمنزلة نافذةٍ لها على عالمٍ مجهول أحسنت إبرازه إلينا بقلمها وخيالها على شكل شخوصٍ بلحمٍ ودم، سمعنا حكاياتهم بأصواتهم في الرواية وفي الفيلم، وتعاطفنا معهم وبكينا لحالهم الذي يشبه حالنا!

وبمناسبة الحديث عن حالنا ترى ما هي الهيئة التي ستكون عليها ردة فعل الكاتبة لو علمت به؟ فنحن عندنا ألف شاغوس في سوريا وهي "جديدة" وليست قديمة من عهدٍ ولّى لم تكن فيه وسائل الإعلام بهذا التطور.

وبينما شاغوس الأصلية تقع في منأى عن كل بقاع المعمورة، فإن شاغوس سوريا تقع في قلب العالم، عند ملتقى القارّات وهي محطّ أنظار الكبير والصغير من دول العالم. ولذلك فإن "شاغوساتنا" مشهورة ونقلتها كل شاشات العالم، أحياناً على الهواء مباشرةً. بل إن أميركا التي كانت البطل الشرير في قصة شاغوس الأولى ما تزال لليوم بطلاً شريراً لشاغوسات أخرى في سوريا من القواعد العسكرية في عين العرب إلى مطارات الحسكة، وحتى ثكنات دير الزور.

وفوق ذلك، هناك أبطالٌ أشرار آخرون فعلوا بدورهم "شاغوسات" جديدة في سوريا: روسيا في تل رفعت وإيران في مضايا والزبداني وحزب الله في القصير، وحتى تركيا لم يخل تدخلها من بعض العسف "الشاغوسي" وتحديداً في عفرين.

هناك أشياء في الحياة تجتمع فيها بصورةٍ نادرة مسبّبات النوح والترنّم -إذا سمح لنا شيخ المعرّة باستخدام لغته- حيث نجيزُ لأنفسنا من خلالها أن نبكي ونضحك في نفس الوقت، وأن نهزل ونجدّ، وأن نسخر من أنفسنا لحدّ الموت ضحكاً أو بكاءً.

هكذا كان وقع الأمسية التي تعرفت بها إلى محنة جزيرة شاغوس عليّ. فقد خرجت فاغراً فمي وضاحكاً وأنا أقول لنفسي: ألم تصبح سوريا شاغوس كبرى حيث سيق 12 مليون شاغوسيّ منها وشرّد بهم من بين أيديهم ومن خلفهم؟ ألم يحصل ذلك في وضح النهار وشاهده كل سكان العالم؟ ألا تتطابق قصة قلعة المضيق الأثرية التي طرد منها ألفا إنسان عام 2012 وحّولت إلى قاعدة عسكرية مع قصة جزيرة شاغوس؟

ضحكت وضحكت في وسط شارعٍ فرنسيٍ خالٍ إلا من رذاذ المطر وترنّمت بصوتٍ مخنوقٍ أقرب للنواح:

أنا من شاغوس! بلدي شاغوس!

أنا من شاغوس! بلدي شاغوس!