انطلق الرّتل العسكري التابع لهيئة تحرير الشام من إدلب، قاصداً مواجهة خصمه الفيلق الثالث شمالي حلب، وقد تزامن ذلك مع عودة طلاب المرحلة الثانوية، في مدينة إدلب إلى بيوتهم باكراً، فإضراب معلمي الثانوي، مازال مفتوحاً منذ عدة أيام، بسبب رفضهم الاستمرار في العمل تطوّعاً!!
وبنبرة العارف المستنكر سألتُ طالباً مجتهداً أعرفه: "كمان اليوم ما في دروس"؟ فأجابني ضاحكاً: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، كان الطالب قد ابتعد فلم يسمعني حين قلتُ: "بل لا صوت لا يعلو فوق صوت المدرسة.. لو كانوا يعلمون".
في الرابع عشر من آذار لعام 624 صدر القرار النبويُّ بشأن أسرى العدو في معركة بدر، وقد نص أحدُ بنوده على أنّ فداء الأسير الذي لم يجد فداءً، تعليمُ عشرةٍ من غلمان المدينة القراءة والكتابة، وبذلك فقط يستردُّ حرّيته.
لست في وارد أداء دور الواعظ الديني، لكني سمعتُ كلا الطرفين يطلق التكبيرات في معركة "كفرجنة" التي دارت رحاها على طريق عفرين اعزاز قبل عدة أيام، فما المانع من كيلهم بذات المكيال الذي يزعمون.
أفلا يقتضي مبدأ الاقتداء، تسخير كلفة المعارك في حقل التعليم، خصوصاً حين تكون هذه الحرب بين شبان، كانوا حتى الأمس القريب في ذات الخندق؟!
وقياساً لما تمّ في قضية أسرى بدر، يظنُّ المرءُ المصلحة، من وجهة نظر عسكرية، تقتضي إنزال أشد العقوبات بحقّ خصوم، كانوا حتى الأمس يضربون الأعناق بالسيوف، تدفعهم رغبة في استئصال الشأفة ووأد الدعوة برمتها، لكنّ النبي رأى في تعليم الصغار مصلحةً أعلى من حسابات العسكر، وغايةً أسمى من الانتقام.
أفلا يقتضي مبدأ الاقتداء، تسخير كلفة المعارك في حقل التعليم، خصوصاً حين تكون هذه الحرب بين شبان، كانوا حتى الأمس القريب في ذات الخندق؟!
يشرعن البعض هذه المعارك، بذريعة أن حفظ الثورة عملٌ مقدّسٌ يعلو فوق التعليم وخبز الفقراء وكلّ اعتبار آخر، بينما يرى آخرون وجوب النأي بالثورة عن صراع بين تفريط الفساد وإفراط السواد، ويسفّه فريق ثالث بكلا الرأيين زاعماً أنّ اقتتال الفصائل، ما هو إلا حروب بالوكالة، رُسمت سيناريوهاتها خارج الحدود.
سبق إضراب معلمي الثانوي في إدلب، إضراب آخر نفذه معلمو المدارس في اعزاز مع بداية العام الدراسي الجاري، ولم تتحقق مطالب المعلمين هناك، لكنّ المعارك بين الإخوة اختطفت الأضواء وشغلت الناس. لتستمر معاناة المعلمين وكذلك الطلاب، هناك في اعزاز والباب وجرابلس، وهنا في إدلب وجسر الشغور وحارم، رغم أنهم مستمرون في إضرابات متوالية شهدها قطاع التعليم في شمال غربي سوريا لسنوات.
لعلَّ صوت احتجاجهم لا يملكُ هيبة أزيز الرصاص ولا سطوة دوي القذائف، كما أنّ تحركهم النقابيّ لا يشكل خطراً على حدود المصالح الإقليمية والدولية.
يروي بعض السوريين في شمال غربي سوريا تفاصيل مؤامرةٍ دولية تطبِّقُ سياسةً ممنهجةً هدفها تجهيل أطفالهم، من خلال تجفيف أو تقتير الدعم المالي عن قطاع التعليم، وكعادتنا مع سيرة المؤامرات الدولية، نعدم امتلاك وثيقةٍ رسميةٍ معلنةٍ، أو حتى مسرّبة، تنقل مزاعم هؤلاء السوريين إلى خانة اليقين، باستثناء حقيقة أنّ الجهات المانحة، من منظمات ودول، كانت سخيةً في دعم مشاريع توفر سلل العدس والبرغل، وأكثر سخاءً في ملفات الدعم النفسي والجندرة، وقبل كل ذلك تأمين مئات ملايين الدولارات لتذخير وتسليح الأطراف المتنازعة!!
حين أراد الحواريون إظهار مدى احترامهم وتقديرهم للمسيح صاروا له تلاميذاً، وأعلنوه معلِّماً.
ومعلماً كان أرسطو في عيون الإغريق، ومثله ابن رشد في قلوب الأندلسيين، ليبقى هذا اللقبُ حتى عهد قريب عظيماً في عيوننا وقلوبنا، نطلقهُ على من يتصدى لبناء العقول، أو على من أحبَّ عمله فأتقن حرفته، فمن أنزل اللقب حديثاً من مرتقاه؟!
ينشأ الاطفال ويكبرون في مدارسهم، تتنازعهم خلال ذلك انقسامات نبيلة، بين مجتهدين وساعين وبين ذلك. مسبغين انقسامهم هذا على مجتمع الكبار، فتتنافس الأحياء والقرى والعائلات لتقتطع حصتها في قوائم الطلاب المتفوقين، معلنةً في كل محفل عن رصيدها من الأكاديميين والمبدعين.
حين تتوقف المدارس والامتحانات لصالح تكاثر الكتائب والصراعات، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نهاية النفق قريباً
انقسامات مجتمعية إيجابية، تحرّض على البذل وتحصيل العلوم، فنهضة الأمم مرهونةٌ بحرصها على إنزال المعلم المنزلةَ الكريمة التي تليق به وتحفزه، وحرصها قبل ذلك على إقرار التعليم قيمةً تتصدّرُ سلّم الأولويات.
حين تتوقف المدارس والامتحانات لصالح تكاثر الكتائب والصراعات، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نهاية النفق قريباً، ولا حتى نوراً يتراءى من بعيد، إذ لا خلاص لمن استبدل "قم للمعلم" بـِ "هيك بده المعلم".