يؤصّل جوهر الأديان جميعها لأسبقيّة وجود الدين على الوجود البشري ذاته، باعتبار أنّ الإنسان لم يُخلق بداية على هذه الأرض التي نعيش عليها، بل في الجنّة، وهناك ابتدأت رحلة صراعه مع ذاته ومخالفته لخالقه عندما ارتكب الخطيئة الأولى والأكبر، والتي بدأ التكفيرَ عنها بعد هبوطه إلى الأرض. إلا أنّ البشر - الذين يفترض بهم إدراك وحدة الدين بوحدة مصدره أي الخالق الأحد الفرد الصمد – استخدموه منذ بدء الخليقة كإحدى أدوات الصراع على الموارد والمكانة والسلطة، فكان الدين غطاءً لكثير من الحروب والنزاعات، وفي كثير من الأحيان دافعاً لشنّها ومحرّكاً لها.
لقد وجِد الدينُ في مجتمعات البشر قبل نشوء الوحدات الاجتماعية الكبرى حتى، أي قبل ظهور العشيرة والقبيلة، وقد كان الدين قبل هذه التكوينات غطاءَ الفرد والأسرة والجماعة ودرعها الأكبر، في مواجهة الطبيعة والأفراد والجماعات الغريبة أيضاً. وحتى الآن لم يتمكن علماء التاريخ من إثبات اللحظة التي يمكن القول إنّ الدين انطلق منها، فهو لازم الإنسان منذ القِدم، وقد عبّر عنه بالرسم والكتابة مذ استطاع إليهما سبيلاً، وقد يكون عبّر عنه أيضاً بالأصوات كالصراخ والغناء وبالحركات أيضاً كالرقص والتمثيل، لكنّ هذه الأدوات لا يمكن تخليدها بغير الكتابة، لذلك قد يكون ما وصلنا من تأريخ وتوثيق لهذا التعبير ناقصٌ لا يفيه حقه.
قبل أن توجد النزعة القومية وقبل أن تولد الروابط الوطنية، كان هناك على الدوام رابط ديني يجمع أفراد الجماعة المعيّنة
والدين حاجة اجتماعية للبشر، يمارسون من خلال طقوسه الجماعية حالات التواصل والتعريف الهوياتي، فلطالما عرّفت المجموعات البشرية ذاتها وحددتها استناداً إلى الدين الذي يجمع أفرادها. فقبل أن توجد النزعة القومية وقبل أن تولد الروابط الوطنية، كان هناك على الدوام رابط ديني يجمع أفراد الجماعة المعيّنة، وكان دوره أساسياً في شعور الانتماء الفردي لهذا الكيان المُشكّل من عدد كبير من الأفراد المختلفين عن بعضهم بعضاً، لكنهم متحدون في أساسيات جمعتهم، أو بالأحرى هم صنعوها لتربط فيما بينهم برباطٍ مقدّسٍ هو الدين.
وحتى في عصرنا الراهن، ورغم التأثير الهائل لتطور العلوم والتكنولوجيا على آليات وطرائق تفكير البشر، ما زال الدين قادراً - وعبر الوسائل ذاتها التي أنتجتها العلوم والتكنولوجيا- على التأثير إن لم نقل على التحكم، في أفكار الناس وطرائق عيشهم وفهمهم للحياة وتحديد مناهجهم فيها.
إذن لعبَ الدين وما زال يلعب أدواراً مهمّة في حياة البشر، وكما كانت المؤسسات الدينية في كثير من الحالات سنداً وداعماً للحكام والسلطة السياسية، كذلك شكلت روافع لكثير من الأمم في نضالها على مرّ التاريخ. المثال الأبرز الذي يمكن الحديث عنه هنا، هو دور الكنيسة الكاثوليكية في حفظ عِقد الشعوب الأوروبية بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية المقدّسة على أيدي القبائل الجرمانية، والدور الذي لعبته أيضاً في مقارعة ديكتاتورية الحكم الشيوعي في عدد من دول أوروبا الشرقية مثل بولونيا، ودورها في مساندة قضايا التحرر والعدالة الاجتماعية في بعض دول أميركا اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل والبيرو والسلفادور، وهو ما مثّله تيّار لاهوت التحرير الذي انحاز إلى الفقراء بما يشبه تحالفاً بين الكنيسة واليسار الذي أسقط الديكتاتوريات اليمينية الواحدة تلو الأخرى.
لا يمكن نسيان الإسلام وما يشكّله من حامل أعظمي ليس فقط لثقافات كثيرٍ من الشعوب، بل أيضاً لهويّاتها الوطنية كما هو الحال مع العرب والأتراك وبعض شعوب آسيا كما في إندونيسيا وماليزيا وبروناي. وكم من مفاصل التاريخ تشهد على أهميّة الدين في صياغة صراعات البشر، ولعلّ في الحروب الصليبية وغزوات المغول أمثلةً كبرى على ما يمكن أن يلعبه الدين من أدوار في تاريخ الأمم والشعوب. فقد تغيرت خريطة التوزع الديني بين المسيحية والإسلام جذرياً في بلاد الشام خلال المائتي عام التي استغرقتها الحروب الصليبية، كما دخلت قبائل التتار والمغول الإسلام خلال أقلّ من نصف قرن على بدء حروبها التدميرية على المنطقة.
لقد سعى الحكام عبر العصور، بدءاً بأصغر خلية اجتماعية وانتقالاً لأكبر إمبراطورية عرفتها البشرية، إلى الاستفادة من القوى المحركة للدين في قيادة المجتمعات، وكان رجال الدين والكهنوت ينازعون الحكام في كثير من الأحيان عروشهم. وقد جاء تنصيب ملك الفرنجة شارلمان من قبل البابا ليون الثالث في مقرّ كنيسة القدّيس بطرس في روما عام 800 للميلاد دليلاً على هذا التداخل بين الدين والسلطة، فمن وقتها سمّيت الكنيسة بالمسيحية وأطلق على الإمبراطورية الرومانية صفة المقدّسة. قبل هذا وبعده يمكن قراءة آلاف الحوادث التي سجلت اضطهاد أتباع الأديان بقوّة السلطة، أو تغيير الحكام ذاتهم بفعل تأثير الدين ورجاله القائمين عليه. هنا يمكن لنا استذكار الدور الكبير الذي لعبه شيوخ الإسلام في السلطنة العثمانية، ونذكر على سبيل المثال فتوى شيخ الإسلام أبي السعود أفندي للسلطان سليمان القانوني بقتل ابنه مصطفى، وفتواه للسلطان سليم الثاني بقتل أخيه بايزيد.
ليس الدين مجرد أداة للتدخل في شؤون السلطة والحكم والتأثير في المجتمعات فقط، بل هو أيضاً مجال مهمٌّ ورئيس للطمأنينة الفردية وسلامة الروح ونقائها
كذلك يُسجّل لبعضهم أيضاً وقف جموح السلاطين وجورهم في بعض الأحيان، كما هو حال شيخ الإسلام علي أفندي عندما رفض إعطاء السلطان سليم فتوى بقتل 150 عاملاً في خزانة الدولة، فتراجع السلطان عن قراره. كذلك يمكننا الحديث عن السلاطين العثمانيين الذين عزلوا عن السلطنة بالقوة وقتلوا بفتاوى من شيوخ الإسلام مثل السلطان إبراهيم الأول.
وليس الدين مجرد أداة للتدخل في شؤون السلطة والحكم والتأثير في المجتمعات فقط، بل هو أيضاً مجال مهمٌّ ورئيس للطمأنينة الفردية وسلامة الروح ونقائها، وهو يلعب دوراً محورياً في ثقافة الخلاص الفردي، عبر التبشير بالعالم المتجاوز غير المرئي، كما يلعب دور المساعد على البقاء وتحمّل المظالم البشرية المختلفة. ما الذي دفع السلطان سليمان القانوني - الذي وصلت الإمبراطورية العثمانية أيامه ذروتها بعد أن سيطرت على أغلب بحار العالم المعروفة آنذاك، الأسود والأبيض والأحمر وما حولها من شواطئ ودول - لأن يأمر في وصيته أن يُدفن معه صندوق الفتاوى التي كان يحصل عليها من شيخ الإسلام في كل أمر جلل اتخذ قراراً به؟ إنّه الإيمان العميق بتعاليم الدين التي تخبر الإنسان بوجود حياة آخرة غير هذه الحياة الدنيا، وهو يتسلّح لمواجهة الامتحان هناك بالفتاوى التي استرشد بها في حكمه. إنّه الدين إذ يلعب أدواره المختلفة في المجتمع.