لم يرتكب نظامٌ ما ارتكبه نظام الأسد، وخاصة تجاه "شعبه"؛ وما نال نظامٌ توصيفات قاذعة ومهينة (كالاستبداد والدكتاتورية والإجرام، التي يستحقّها)، كما نال؛ ولم يُمنَح نظامٌ فرصاً، كما مُنِح؛ ولم يضيّع فرص خلاصٍ لسوريا، كما ضيّع؛ ولم يخيّب نظامٌ مانحي تلك الفرص، كما فعل؛ ولم يتكشّف نظامٌ، كما تكشّف؛ ولم يتأخر حسابه أو إنهاؤه، كما حدث معه. لقد ثبُتَ فشله - وبيده بامتياز - حيث حوّل سوريا إلى "دولة فاشلة/ failure state" بجدارة. ومن هنا، لا بد أن الوقت قد أزف للخلاص من هذا الوباء.
حتى أميركا، التي كانت تاريخياً حريصة عليه لخدماته لها، حيث صوّرها، وأقنع تابعيه ومريديه بأنها وراء "المؤامرة الكونية" عليه؛ وهي فعلياً لم تطلب منه أكثر من "تغيير سلوكه"؛ فإدارة أوباما مثلاً، هي التي ضبطت إيقاع ردة الفعل العالمية على جريمته الكيماوية، واكتفت بسحب السلاح، وإبقاء الفاعل طليقا.
أميركا وحليفتها إسرائيل هما مَن أتاح لحزب الله وإيران، ولاحقاً لروسيا، حماية. حتى تلك القوانين التي أصدرتها أميركا لم تكن تؤذي نظامه، بل أذت الشعب السوري، ومكّنت نظام الأسد من إحكام قبضته على هذا الشعب أكثر. لقد أشاحت أميركا الطرف عن محاولات الجامعة العربية أعادته لصفوفها، والتطبيع معه؛ واتخذت موقفا رمادياً؛ وأقصى ما طلبته من العرب ألّا يكون ما فعلوه تجاهه بلا ثمن؛ على الأقل "تغيير السلوك".
لقد حمّلت أبواق المنظومة الأسدية بوتين المنَّة، بأنها مَن أعطته الفرصة للتمدد نحو مياه المتوسط الدافئة، وأعادته للساحة السياسية الدولية؛ إلا أنها رفست كل جهود بوتين ومساعيه لإعادة تكريرها، عندما تحوّل إلى دينمو التطبيع بينها وبين تركيا ومع العرب
تجاه كل ذلك، وحتى يستمر بالمناكفة الكاذبة وسردية العداء لأميركا، استمر النظام بالصلف والمكابرة والانفصام والعناد، ولم يستفد - حتى تمثيلياً - من كل تلك الفرص، مغلقاً الباب على نفسه، وعلى سوريا. لقد خيّب آمالهم حتى بالإبقاء على نفسه أداةً، طالما كانت مفيدة استخبارياً، وفي أخذ الرهائن وتحريرهم، واستخدام الإرهابيين، وزعزعة أمن المنطقة، متى شاءت أميركا.
أخذ خُذلان نظام الأسد لروسيا بوتين شكلاً آخر، رغم أنها مسؤولة أساسية عن بقائه بالسلطة؛ فهي حمته سياسياً بأخذها مجلس الأمن الدولي رهينة ل"فيتوهاتها"، وعسكرياً بتدمير البشر والحجر في سوريا الرافضة له. لقد حمّلت أبواق المنظومة الأسدية بوتين المنَّة، بأنها مَن أعطته الفرصة للتمدد نحو مياه المتوسط الدافئة، وأعادته للساحة السياسية الدولية؛ إلا أنها رفست كل جهود بوتين ومساعيه لإعادة تكريرها، عندما تحوّل إلى دينمو التطبيع بينها وبين تركيا ومع العرب. إلا أن الأسد، وبتخطيط وفعل واستلاب إيراني، أغلق كل الأبواب، حارماً الروس من أي جنى سياسي تعويضاً على أفعالهم الإجرامية في سوريا؛ بغض النظر عن إغراءات العقود التي وقعها لهم، حيث لا قيمة لتلك العقود، عندما تكون ممهورة بتوقيع فاقدٍ للشرعية.
لقد طوت الجامعة العربية قراراتها السابقة المحقّة بمقاطعة نظام الأسد، وسعت لاحتوائه وإعادة تكريره، وتحمّلت جرح وخذلان ملايين السوريين المكلومين، والمشردين، والمعتقلين، والمدمرة حياتهم؛ وساقت من أجل استيعابه حججاً ما أنزل الله بها من سلطان؛ إلا أنه صفق الباب في وجهها، وخذلها بانفصاله عن الواقع ومكابرته وغبائه.
كان المستفيد الأساس من فشل منظومة الأسد، والخذلان الذي واجهت به كل من حاول إنقاذها، هو ملالي طهران أصحاب مشروع الخطر الوجودي للمنطقة؛ حيث أدركوا أنهم بقدر ما يغيّبون جميع المنقذين، باستخدامهم هذه الأداة المرتهنة الطيعة، عبر إرعابهم وإرهابهم وإشرافهم على أمنه الشخصي، بقدر ما ازدادت فرص نجاح هلالهم التدميري للمنطقة.
فوق هذا وذاك، كان فشل "النظام" بإدارة ما تبقى له من سوريا، عندما رهن خيرات سوريا ومواردها حمايةً لكرسي السلطة، وعاش هو وحاشيته على بعض ريع الكبتاغون. وهكذا كان خذلانه الأكبر وفشله الذريع تجاه ما اعتبره حاشيته من مختلف الطوائف، حيث مجموعات محدودة تعيش ارستقراطياً، والغالبية تحت خط الفقر والمهانة والخوف وفقدان الأمل إضافة لجروح الحزن على فلذات أكبادٍ فقدوا الحياة ثمناً لكرسيّه. لقد فشل بإنجاز ما اعتبره زوراً "مجتمعه المتجانس". مَن تبقى يشعر بخيبة مريرة؛ حيث اكتشف بأنه قد تم أخذه رهينة، وتولّد عداءٌ مستأصلٌ بينه وبين أهل بلده الذين شُردوا؛ وتعمّق الشرخ الطائفي الذي كان قد عمل النظام عليه طويلا. لقد صُوِّرَ له أخوه في الوطن كإرهابي، يستهدف وجوده.
ها هي الأقليات ذاتها تطالب برحيله؛ فما الصوت القادم من السويداء إلا ترجمة لجذر المصاب السوري بهذه الطغمة، وما صرختها إلا استمرارٌ وامتدادٌ لصرخة السوريين عام 2011
ها هي التي تُسمّى "حاضنته" والأقليات، التي ادعى حمايتها، تقف على حقائق سردياته وزيف أبواقه الكاذبة بأن حرباً أهلية تدور في سوريا. ها هي الأقليات ذاتها تطالب برحيله؛ فما الصوت القادم من السويداء إلا ترجمة لجذر المصاب السوري بهذه الطغمة، وما صرختها إلا استمرارٌ وامتدادٌ لصرخة السوريين عام 2011، وها هي الأقليات تسقطه معنوياً وأخلاقياً وسياسياً.
بعد كل هذا الانكشاف، وبعد ثبوت الفشل الذريع، وبعد أن تبيّن أن هذا الجنى الإيراني يؤثر بطريقة أو أخرى على المشروع الأمرو-إسرائيلي في المنطقة، وخاصة تحوّل الآفة الأسدية إلى عبء، وبعد تحوّل الملالي إلى مشروع "يفتح على حسابه"؛ لا بد أن {حُماته الأساس} قد وصلوا إلى قناعة بأن استئصاله أضحى ضرورة. ومن هنا، لا بد أن الوقت قد أزف للخلاص من هذا الوباء، الذي وضع نفسه في مواجهة الحريصين على بقائه لمصالحهم، وتصفية حساباتهم على أرض جعلها مستباحة؛ كما جعل نفسه بمواجهة أولئك الذين تمَّ أخذهم رهائن خوفاً أو رماديةً، وأولئك الذين رفضوه وثاروا عليه منذ البداية، وحتى اللحظة هم مستمرون. ها نحن أمام لحظات الفرج والخلاص لا لسوريا والسوريين فقط، بل لكل العرب، وحتى لمن كان حريصاً على إبقائه، وذلك بحكم تحوّله إلى عبء يستحيل احتماله.