بمراجعة موضوعية لمسار ثورة الحرية والكرامة في سوريا منذ 2011 والوقوف عند أهم الأسباب الذاتية التي قادتنا إلى الفشل في تحقيق أهدافنا، سأتوقف عند سبب رئيسي، أعتقد أنه كان من بين أهم الأسباب الذاتية إن لم يكن أهمها وهو أننا كنا ثواراً بلا رؤوس (بلا قيادة) وأقصد بذلك عدم توفر هيئات قيادية مؤهلة سياسياً ومهنياً وأخلاقيا بما فيه الكفاية لتكون قيادة ناجحة، لا على مستوى الهيئات فقط بل على مستوى القائد الفرد أيضأ. ودليلي على ذلك سوف آخذه من إعادة النظر بأدوار رؤساء الكتل السياسية المشكلة للمجلس الوطني السوري في إسطنبول عام 2011 وكذلك ائتلاف قوى الثورة السورية والمعارضة الذي تشكل في نهاية سنة 2012 في الدوحة، ليكون بديلاً عن مجلس قامت حوله مختلف التأويلات والاتهامات الصحيحة والخاطئة، وحيث علقت آمال كبرى على البديل الجديد ورؤوسه الحامية، في أن يتمكن من قيادة الثورة متجنباً أخطاء المجلس ومشكلاته ولكنهم لم يلبثوا أن اصطدموا وصدموا بأدائهم الأكثر تشتتاً وارتهانا للدول والمال السياسي والمراهنة على فصائل غريبة، اخترقت جسم الثورة وخطفت الأنظار نحو السلاح والمعارك الدائرة، بينما بهتت السياسة والسياسيون وانفصلوا عن حاضنة الثورة وعن أنفسهم وغدوا مؤسسة بيروقراطية، ترتزق وتأتمر من الخارج وتتصارع على الرئاسة وتقاسم الحصص ثم سرعان ما غدت جسما ميتاً سريرياً ولا تنفع معه محاولات بعض حراسه وحماته في إنعاشه.
ظل الجميع يسيرون في نفس الدوامة، ولم يعد يشغلهم سوى توزيع المناصب واختيار الرئيس والهيئة السياسية
لقد اتسع الائتلاف لكتلة وازنة من المجلس الوطني السوري دخلت بضغوط دولية معروفة، على حين رفضنا نحن في إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي ولم ننخرط في صفوفه بصفتنا هذه، رغم أن الحماس كان على أشده للتشكيل البديل برئاسة الشيخ معاذ الخطيب والذي كان قد استدعي إلى القيادة، ضمن رهان أوروبي وعربي على قيامه بدور توفيقي وسطي معتدل، والسير بقيادته إلى مسار جنيف التفاوضي، الذي انخرط فيه الائتلاف، تحت وعود عرقوبية، بالاعتراف الدولي واستعادة أموال النظام في الخارج وغيرها. ولكن سرعان ما أحبط الرئيس الجديد وقدم استقالته بعد ما مكنته جامعة الدول العربية من إشغال موقع سوريا والتحدث باسمها، وكانت شكواه المعروفة من تخلّي المجتمع الدولي عن الثورة ومن طبيعة التنافس بين ممثلي الدول والمال السياسي الذي اخترق بنية الائتلاف وبات يلعب في تحديد المصائر والمراتب وأسباب ذاتية لم يفصح عنها. ولقد أدت استقالة الخطيب إلى إعادة خلط الأوراق واختيار أحمد الجربا رئيساً بعد دخوله الائتلاف مع ثمانية من ممثلي الكتلة الديمقراطية، بالإشارة إلى تثقيل وزن القوى الديمقراطية في موازاة قوى الإسلام السياسي وإلى انتقال واضح من الرعاية القطرية إلى الرعاية السعودية، وما تبع ذلك من القيل والقال وتغيير في الاصطفاف وصولاً إلى انتخاب هادي البحرة باعتباره أقرب المتابعين للرعاية السعودية بعد سلفه أحمد الجربا، ويوما بعد يوم كان يتضح أن ترتيبات القيادة لم تقم بشكل مهني ولم تأخذ ضرورات العمل ولم تنتق الأفضل، هذا إذا كان الأفضل موجوداً ولأن الملاحظ أن تغيير القيادات (الرؤساء) لم يعط أية نتائج إيجابية، بل ظل الجميع يسيرون في نفس الدوامة، ولم يعد يشغلهم سوى توزيع المناصب واختيار الرئيس والهيئة السياسية، ولم تطل فترة الإنعاش الشكلي التي شهدها الائتلاف برئاسة نصر الحريري، ليدخل في دوامة الصراعات الداخلية والتبعية الدولية والعلاقة المرتبكة مع الفصائل العسكرية التي نبتت كالفطور وارتباكه بالخضوع إلى مخططات غرفتي الموك والموم، اللتين لم تؤديا إلى تقوية العسكرة الوطنية المعتدلة، بل عملتا كقيادة آمرة وفقاً لما تقرره أميركا والدول الدائرة في فلكها.
وأمام بروز النرجسيات المتنافسة عبر شخوص متنوعي الولاء، فقدت الهيئة القيادية مصداقيتها ولعب فيها المال السياسي والرشى دورهما وصارت الرئاسة حصيلة صفقات وحرتقات وتوافقات تفتقد لروح المسؤولية، وما يفترض بها من بلورة وتمثيل العقل الجماعي للثورة، من خلال الالتفاف حول هدفها الاستراتيجي والتشارك في التكتيكي والآني، ولكن لمزيد الأسف صارت التباينات والمنافسات هي البديل عن الانسجام وقوة الالتفاف حول الهدف المركزي، وبات توزيع الممثلين في سلم الوظائف والمهام واختيار الرئيس شاغل الجميع من دون أن يرتبط برفع أسهم الأداء الثوري، وصارت الرئاسة تعني تقريب جماعة وإبعاد أخرى، وبذا غدت رئاسة الائتلاف مكسباً شخصياً ونجاحا لمن يقف خلفها من الدول وحلت معايير الولاء مكان معايير تمثيل الثورة. وكان هذا ذروة السقوط السياسي والأخلاقي وانعكس سلباً وإحباطا على حاضنة الثورة فانكفأ كثير من الشباب الذين واجهوا براميل النظام وسلاحه الكيمياوي وكل أساليب القمع الوحشية وعم القلق والترقب كل سوري، سواء تحت سلطة النظام أو إحدى قوى الأمر الواقع أو من آوته خيام البؤس والتشرد والمرض والجوع أو من توزعتهم بلاد الله الواسعة، ويعانون من مشكلة الهوية والاندماج والثقافة المغايرة.
ويعود السؤال ملحاً: كم نحن بحاجة للعودة إلى نقطة البداية حين تكرّست الثورة عام 2011 م كواقع عملي وبات أمر اختيار قيادة ثورية هاجساً عاما، عقدت لأجله عدة مؤتمرات استباقية، أملتها ضرورات مواجهة عنف النظام المتصاعد وارتفاع عدد الضحايا، قبل أن يمليها واقع وصول الصراع إلى نقطة مفصلية، تتطلب وجود قيادة وطنية ثورية تحمل أهداف الثورة وتعمل على تحقيق انتصارها، أخذة بعين الاعتبار كل ملتزمات ومعايير هذه الهيئة القيادية السياسية والأخلاقية والإعلامية وغيرها، ليكون لها ما يوازي مؤسسات النظام من بناء هرمي منظم ومنضبط ومبني على أسس علمية وموزع وفقاً لاختصاصات مهنية قادرة على التصدي لكل منابر النظام السياسية والإعلامية وتتفوق عليه بسرديتها الأخلاقية التي تفضح ممارساته وجرائمه وكل تجاوزاته على حقوق الإنسان وحق المواطنة.
عزّت الصفة وانطوت كلمة القائد (المصلح) من التداول، لأنها لم تجد من يستحق ذلك اللقب وتكرّست بدلاً عنها أساليب اختيار الرؤساء بلا رئاسة حقيقة
ولكن رغم كل ما دفعه السوريون من أثمان باهظة في صراعهم المديد مع النظام، لم يهتدوا لا إلى هذه الهيئة القيادية ولا إلى القائد، بل عزّت الصفة وانطوت كلمة القائد (المصلح) من التداول، لأنها لم تجد من يستحق ذلك اللقب وتكرّست بدلاً عنها أساليب اختيار الرؤساء بلا رئاسة حقيقة وتوزيع المهام وفقاً للولاء وبدا أن تربية البعث قد أتت أكلها، وبموجبها لم تعد النزاهة والكفاءة وصدق الانتماء هي المعايير الضرورية لاختيار الرئيس.
ومع ضرورة القطع النهائي مع هذا السبات المؤسسي السوري، ألا يجدر بالنخب السورية أن تعيد بناء هياكلها مستفيدة من تجربة طويلة ومريرة، تداخل صحيحها بخطئها، بعد أن ظهر للجميع أن القضية السورية ليست قضية ملحة سوى لأهلها السوريين وليس للمنتفعين من استمرار الخراب والكارثة الكبرى.