في الواقع أصبح مصطلح "العالم الافتراضي" تعبيراً يفتقر بشكل كبير إلى الدقة، فما نسميه "العالم الافتراضي" أصبح ساحة لأضخم تداولات مالية عرفها البشر عبر تاريخهم، وفضاءً لأوسع شبكة علاقات اجتماعية واتصالات ومعلومات وتبادل بضائع وأخبار في تاريخنا أيضاً، وبالتالي، أصبح جزءاً أساسياً في حياتنا "الواقعية"، والتي غالباً ما نتابع ميل كثيرين للابتعاد عنها لصالح الافتراضي، لكونه مجتمعاً نمارس فيه ذواتنا، بحرية أكبر، أو على الأقل كما نرغب أن نكون وليس كما نحن عليه بالواقع، بخسائر "افتراضية"، عدا عن كونه يكاد أن يكون دون أي قيود واضحة.
لكن لكي يستخدم أحدنا "البذاءة" والتنمر، وتشويه السمعة ونشر الأكاذيب بصورة مستمرة، كلغة ونمط تعامل مع الآخرين والمجتمع في الحياة الواقعية، يجب أن يتحمل عواقب وخيمة، يفرضها المجتمع، أو الدين، أو القانون، أو الأسرة، وغير ذلك من الروادع الاجتماعية والقانونية، أو خشية ردود فعل انتقامية من قبل الشخص أو الجهة التي يمارس العنف اللفظي والتنمر بحقها.
لكن لو أردنا أن نرصد هذه الظاهرة "العنف اللفظي" والتنمر، وكيل الشتائم بشكل منفلت، فلن نجد صعوبة في أن نلمس بوضوح انتشار هذه الظاهرة لتشكل "سمة عامة" في معظم النقاشات أو الأفكار أو المواد التي يتم نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً المهتمين بمناقشة القضايا الدينية والسياسية والرياضة لكونها الموضوعات التي يكون أصحابها أكثر عرضة للتنمر والإساءة من غيرهم حسب أحد تقارير الأمم المتحدة.
في العالم الافتراضي يمكننا ألا نكون ما نحن عليه بالواقع، وغالباً ما نكون في العالم الافتراضي ما نرغب أو نريد أن نكون عليه في الواقع
ولعلنا نلحظ أن الصنف الأكثر إصراراً وتواتراً في استخدام هذا الأسلوب في التعبير هم المتطرفون من كل الاتجاهات، فهم غالباً لا يعبّرون عن وجهات نظر مقابلة، لا يوجهون نقداً أصلاً، هم يمارسون التحطيم -إطلاق النار-، إطلاق الأحكام، بث الرعب والتهديد واللجوء لتشويه السمعة، ممارسة القسوة وباستمرار فقط.
ربما نعزو هذه الظاهرة المرعبة، من بين أمورٍ أخرى، لكوننا في العالم الافتراضي يمكننا ألا نكون ما نحن عليه بالواقع، وغالباً ما نكون في العالم الافتراضي ما نرغب أو نريد أن نكون عليه في الواقع الذي لا يسمح لكثيرين جداً أن يعبروا كما يرغبون وألا يفصحوا عن أفكارهم ومشاعرهم الحقيقية بالأريحيّة والّلامبالاة التامة التي يقوم كثيرون بها في العالم الافتراضي.
ولذلك يصبح المتنمرون -المتطرفون- بالعالم الافتراضي أكثر شجاعة، وأكثر شراسةً وقسوة ًوإصراراً بالوقت ذاته، وخصوصاً عندما يتوجهون بعنفهم اللفظي تجاه أشخاص لا يرتبطون بهم بأي رابط اجتماعي مباشر بالواقع، الأمر الذي يشجع أكثر على التمادي في البذاءة والشتيمة والتنمر كلغة وأسلوب تعامل بوسائل التواصل الاجتماعي، فمن يمارسون هذا الأسلوب التحطيمي يعلمون أنهم "مجهولون" غالباً، بالنسبة لمن يمارس بحقهم التنمر والعنف اللفظي، أي أنهم يقعون خارج نطاقاتهم الاجتماعية بالواقع ولا تربطهم بهم أي صلة، وبالتالي لا يراودهم أي حرج في إطلاق عنفهم اللفظي دون تفكير.
أيضاً، الدناءة والتنمر عبر وسائل التواصل متحررين من قيود اجتماعية كثيرة يفرضها الواقع على من يتسم بها، بينما تتلاشى تلك القيود في وسائل التواصل الاجتماعي، فـكثيرون يعتقدون أنهم تحرروا من عبء احترام الآخرين لهم، وضرورة احترامهم للآخرين، ولذواتهم كما هو بواقع الحال.
من جانبٍ آخر، هناك تفاعل إيجابي مع التنمر والبذاءة، هناك تشجيع من نوع ما، كلما كان أكثر بذاءة وحدة، تجاه الفكرة أو صاحبها، لاقى ليس فقط تفاعلاً إيجابيّاً، وإنما هناك "دعوة للتعاون" يشارك بها الآلاف في كثيرٍ من الأحيان.
أضف لأن ثقافة الدناءة والتهجّم اللفظي، في العالم الافتراضي ليست منبوذة ومجرّمة في كثير من الأحيان، بذات الحدة التي تنبذ فيها بالواقع، لما قد يترتب عليها من تداعيات سلبية، لا تقابلها ذات التداعيات بالعالم الافتراضي، رغم أننا يمكن أن نتحدث عن تداعيات أخرى قد تكون أشد ضراوة.
يصبح الوضع أكثر سوءاً عندما نتحدث عن ظروف خاصة، كالتي يعيشها السوريون وبعض شعوب المنطقة العربية، والشرق الأوسط، والعالم عموماً مع الإغلاق الكبير بسبب تفشي فيروس كورونا، حيث هنالك استقطاب حاد يتجسد بصراعات دموية على الأرض بين أبناء المنطقة، ويترافق بشعور عام من المظلومية، والقهر، والتهميش، والعجز عن فعل أي شيء يدفع بالتغيير ولو جزئياً نحو الأفضل.
كل ذلك يعطي دافعاً قوياً لأن نكون عرضة لمزيد من ممارسة التنمر، محاولة السيطرة وفرض الذات، التشفّي والانتقام، القدرة على الجلد، أن لا نكون مجرد ضحايا، القدرة على القهر، وممارسة التحطيم والتهميش، وغالباً ما نجد كثيرين ممن يعانون من هجمات تنمر وتشويه شرسة، وهم بدورهم يمارسون ذات العنف اللفظي والتنمر، بأماكن أخرى في هذا العالم الافتراضي الشاسع.
تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً مثالياً للتعبير بعيداً عن أطر الرقابة المجتمعية والقانونية، ولكنها بالوقت ذاته تشكل فضاءً مثالياً أيضاً، لبث مكنونات وبواعث الغضب والكراهية والتهميش
على هذا كله، تتسع بالعالم الافتراضي فسحة للنقد العدمي، والتنمر أكثر بكثير مما هي بالواقع، لكنها تساهم بشدّة لدفعنا بواقعنا، لنكون أكثر تطرفاً وحدةً وقابليةً للاستعداء، على عكس المتوقّع مع بدايات إطلاق مساحات التواصل الافتراضي، بأنها ستزيد من حالة الانفتاح وتقبل الآخر واحترام التنوع والاختلاف، وبأن العالم أصبح "قرية صغيرة" بما يحمله هذا المعنى من دفء العلاقات الاجتماعية وبساطتها.
بالنتيجة، تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً مثالياً للتعبير بعيداً عن أطر الرقابة المجتمعية والقانونية، ولكنها بالوقت ذاته تشكل فضاءً مثالياً أيضاً، لبث مكنونات وبواعث الغضب والكراهية والتهميش، دون أي رادع تقريباً، وبصورة تدميرية، يساهم في رواج تلك المواد المتضمنة لكل أشكال خطاب التطرف والكراهية والتنمر، الخوارزميات التي صممت عليها تلك المنصات الرقمية والتي تهدف بشكل رئيسي وقبل كل شيء لزيادة نسب المتابعة، وعدم القدرة -حتى الآن- لاعتماد سياسات وقوانين تحول تلك المساحات الافتراضية لبيئة آمنة للتعبير والنقد وتبادل المعلومات وإقامة العلاقات الاجتماعية.
فعلى الرغم من الفرق الواضح تماماً بين خطاب الكراهية والتحريض على العنف والتنمر، وبين حرية الرأي والتعبير، من حيث المبدأ، إلا أن الحدود الفاصلة بينهما غير واضحة مطلقاً، ولا زال هناك جدل عالمي حول ما يمكن أن نعتبره "حدوداً" لحرية التعبير والرأي، وبين ما يمكن أن نعتبره خطاب كراهية وتحريض، الأمر الذي يزيد من صعوبة وتعقيد وضع سياسات معقولة لمراقبة المحتوى وتحويل وسائل التواصل الاجتماعي لبيئة أكثر أماناً لمستخدميها، دون أن تتحول تلك السياسات والتدابير الرقابية لأدوات لانتهاك حقوق حرية الرأي والتعبير بالوقت ذاته.