لا يمكن تجاهل الظاهرة الفريدة التي يقوم بها متظاهرون في شتى أنحاء العالم، فيما عرف بالموجة المستمرة للتنديد بإعدام المواطن الأميركي جورج فلويد الذي قضى تحت ركبة شرطي عنصري أبيض أوائل الشهر، وتلك الظاهرة تتمثل في رفض المتظاهرين لرموز فترة عرفت باسم الفترة الاستعمارية وكان أولئك الرموز مكرمين ونافذين لدرجة أن تماثيلهم نصبت ورفعت وشيدت لأجلهم النصب التذكارية في شوارع حواضر الغرب الديمقراطي من واشنطن وتكساس إلى لندن و باريس و بروكسل ...
في بروكسل هاج العشرات من رافضي سياسات التمييز العنصري ومن دعاة إعادة كتابة التاريخ وتصويب أخطاء الماضي، وهاجموا تماثيل الملك ليوبولد الثاني أحد ملوك بلجيكا ممن سجل باسمه ارتكاب مجازر وانتهاكات رهيبة لحقوق الإنسان فيما عرف وقتها بالكونغو البلجيكية وتعرف اليوم بجمهورية الكونغو التي احتلتها القوات البلجيكية إبان الفترة الاستعمارية وأعلن ليوبولد ضمها للمملكة البلجيكية في بدايات القرن التاسع عشر، حيث استغلت الحكومة البلجيكية ما استطاعت الثروات الطبيعية في حوض الكونغو الغني بالمطاط و الأخشاب و العاج.. وارتكبت قواته مذابح قدّر المؤرخون عدد من قتلوا فيها بعشرة ملايين إنسان أفريقي، وعدد من قطعت أيديهم وأرجلهم نتيجة إخفاقهم في جمع الحصة اليومية من المطاط بـ 20 مليوناً.. فظائع لم ينسها أبناء الكونغو المعاصرين وسجلت باسمه كواحد من أفظع جزاري التاريخ ... الذي ما تزال نصبه وتماثيله تزين ساحات وشوراع عاصمة الاتحاد الأوروبي حتى اليوم ...
في بريطانيا أطاح المتظاهرون بتمثال إدوارد كولستون الذي سقط من على قاعدته في مدينة بريستول وهو أحد أكبر تجار العبيد في أوروبا في القرن الثامن عشر ممن ساهموا بخطف و تعذيب ملايين البشر من أفريقيا وسوقهم مسلسلين بالجنازير إلى أميركا ليقوم ببيعهم كمزارعين و عمال بناء بالسخرة هناك، هذا الرجل هو أحد المساهمين بعذابات ملايين البشر الأفارقة ، فقد قامت عصاباته وقراصنته بجرائم لا يمكن وصفها ولا يمكن تدوينها عبر تدمير عائلات و تفريق أحباب ورمي المتمردين من المخطوفين الأفارقة في المحيط، جرائم لا تنسى، وما يزال تمثاله مرفوعاً في مسقط رأسه في بريستول كأحد الأثرياء المساهمين في توسع المدينة في حينها، حتى ضخت وفاة جورج فلويد في أميركا الدماء في الحركات المناهضة للتمييز العنصري، فأطاح المتظاهرون بتمثاله و قاموا بجره في شوارع المدينة ومن ثم قاموا برميه في نهر بريستول حيث مكانه في قاع النهر على حد قولهم وقولنا...
في أوكسفورد تجمع الآلاف أمام مبنى أثري تضم واجهته تمثالاً لـ سيسيل روديس منظر التوسع الاستعماري في أفريقيا ورئيس وزراء مستعمرة رأس الرجاء الصالح، الذي توسعت الإمبراطورية البريطانية في عهده عشرات الأضعاف لتشمل أراضٍ في ناميبيا وجنوب أفريقيا وبتسوانا، لدرجة أنه وضع اسمه على بقعة جغرافية كبيرة لتسمى من بعده باسم (روديسيا)، ساهم سيسيل رودس أيضاً بمنهجة استخراج الألماس من أفريقيا فأسس شركة الماس الكبرى التي ما تزال تعمل حتى اليوم باسم (دي بيرز) في مقرها في لوكسمبورغ... ساهم رودوس في تهجير الملايين وشن حروب أدت إلى مقتل مئات الألاف من الأفارقة، واستمرت السياسات العنصرية التي أسسها في قتل الملايين بعد عقود من وفاته، ولكن مجلس المدينة رفض إزالة التمثال بحجة أنه جزء أساسي من مبنى أثري، بينما وعلى الجهة المقابلة في لندن طوقت البلدية في لندن تمثال رئيس الوزراء الشهير وبطل الحرب العالمية الثانية (ونستون تشرشل) بدعوى تاريخه المرتبط بالفترة الاستعمارية رغم الأصوات التي تحمله مسؤولية جرائم في الهند أثناء الفترة الاستعمارية...
في الولايات المتحدة، وتحديداً في الولايات الجنوبية، تقدمت الاحتجاجات المناهضة للعنصرية بإجراءات حقيقية لإزالة تماثيل رموز فترة الدولة الكونفدرالية التي حاربت الولايات المتحدة الأميركية وأعلنت الاستقلال عنها وضمت سبع ولايات جنوبية كانت تدعم استمرار العبودية وتفوق العرق الأبيض على باقي الأعراق.. ففي مدينة ريتشموند عاصمة الدولة الكونفدرالية تم إسقاط تمثال (جيفرسون دايفيس) أول وآخر رئيس لدولة الكونفدرالية الأميركية، وهناك مطالبات بإزالة تمثاله من قاعة المتحف الوطني، برفقة تمثال نائبه.. وتم كذلك إسقاط وتشويه عدد كبير من تماثيل قادة عسكريين ساهموا في الحرب الأهلية وقاتلوا من أجل استمرار العبودية ومن أجل قناعتهم بالتفوق الأبيض، ولكن المفاجأة كانت بإسقاط عدد كبير من تماثيل كريستوفر كولومبوس المكتشف الإيطالي الذي اكتشف القارة الأميركية، بدعوى اتهامه بارتكاب جرائم إبادة عشوائية أدت إلى وفاة الملايين من السكان الأصليين للبلاد ممن دُعوا لاحقاً بالهنود الحمر... وهي تسمية عنصرية حسب الحركات الاحتجاجية...
يبقى السؤال كيف بقيت كل تلك التماثيل لأولئك المجرمين منتصبة في مدن تحكمها الديمقراطية، وقوانين حقوق الإنسان، أو كيف يمكن بالأصل نصب تمثال لتاجر عبيد ثري، في شوارع بريطانيا.. أو لقائد جل إرثه هو في تقسيم البلاد وانفصالها عن الأصل، هو يؤمن بأن الرجال من أصول أفريقية لا يمكن لهم أن يحكموا أنفسهم ولا أن يدخلوا مطاعم برفقة البيض أو يتعالجوا في ذات المشافي مع البيض...؟!
ذلك العالم الحر الذي يتيح الهامش فيه على الدوام مساحات للجماعات اليمينية التي تسير عكس التيار العام للحريات في البلاد الحرة، ذلك الهامش الذي يُحترم فيه الرأي حتى لو كان رأياً مسيئاً وعنصرياً.. لم يعد من الممكن فسح المجال له ليتبلور في عناصر نصف نازية أو فاشية أو جارجة عن نطاق منطق حقوق الإنسان التي نعيش في ظلها في القرن الواحد والعشرين...
هذا كان في الغرب، أما في بلادنا فيبدو أن زمن محاولة إعادة التماثيل وفكرة بناء النصب للمجرمين ما تزال موجودة، حتى إن كانت النصب والتماثيل في عقول الأنصار فقط، أو على شكل أضرحة دينية. فكم من تماثيل تعبد ويحج لها في بلادنا الشاسعة ليست موجودة في الساحات فقط، بل وأيضاً في العقول الواهمة.