لم يكد يجف حبر بيان قمة طهران التي جمعت رؤساء تركيا وإيران وروسيا أواخر تموز الفائت، حتى تحول التفاوض بين الدول المجتمعة إلى مواجهات في الميدان. حيث لم تستطع الابتسامات والعبارات الدبلوماسية المنمقة إخفاء صراع الإرادات وتضارب المصالح على الأرض. وفي حين انصرفت تركيا لاستكمال الاستعدادات لشن عملية عسكرية شمالي سوريا، عملت روسيا وإيران وأذرعهما على تشكيل جبهة موحدة للتصدي للقوات التركية. فرض مشهد ما قبل اندلاع حرب حقيقية بين هذه الأطراف، الإسراع في عقد قمة تركية - روسية في سوتشي في 5 آب بهدف الوصول إلى تفاهم مرضٍ لجميع الأطراف. فكان الاجتماع الماراثوني بين الرئيسين إردوغان وبوتين مؤشراً على ضراوة وربما شمولية المفاوضات بين الجانبين.
قمة طهران.. تبادل رسائل النار
على وقع التحضيرات التركية لشن عملية عسكرية بالاشتراك مع فصائل الجيش الوطني السوري، عقد رؤساء إيران وروسيا وتركيا قمة ثلاثية في طهران في تموز الفائت. وقد سبق قمة طهران تصريحات متتالية للرئيس التركي وأركان حكومته عن عزمهم تنفيذ عملية عسكرية تهدف لتحرير مدينتي تل رفعت ومنبج والمناطق المحيطة بهما من سيطرة ميليشيات قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ورغم خيبة أمل قسد بعد تخلي حلفائها الولايات المتحدة وروسيا عنها، إلا أنها تنفست الصعداء بعد قمة طهران التي كشفت تضارب المصالح بين تركيا وإيران وروسيا. فلم تكد وفود الأطراف الثلاثة تصل إلى بلدانها، حتى بدأت نتائج القمة تتكشف عن رسائل نارية تمثلت بتعرض القواعد التركية لقصف نفذته قسد والميليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق. كما خطَت روسيا خطوات تصعيدية إضافية من خلال إشرافها على تشكيل غرفة عمليات موحدة ضمتها مع إيران والنظام السوري وقسد وما تلا ذلك من مناورات مشتركة لهذه الأطراف لمواجهة القوات التركية.
كل هذه التطورات وضعها الرئيس إردوغان أمام أعضاء مجلس الأمن القومي التركي الذين فضّلوا على ما يبدو استمرار التحضيرات للعملية العسكرية جنباً إلى جنب مع استخدام مسيرات بيرقدار "لاصطياد" كبار قادة قسد. فكان تأجيل البدء بالعملية العسكرية الخيار الأنسب ريثما تجري القيادة التركية مباحثات جديدة مع الجانب الروسي الذي يمسك بخيوط اللعبة السورية كلها تقريباً. الأمر الذي دفع الجانب التركي لطلب عقد قمة ثنائية روسية-تركية (دون دعوة الجانب الإيراني) انطلاقاً من إدراك تركيا أن روسيا قادرة على إلزام باقي الأطراف بالانصياع لأي اتفاق يتوصل له الطرفان. كما تدرك تركيا جيداً أن الجانب الإيراني يحاول جرها إلى حرب استنزاف ضد وكلاء إيران في العراق وسوريا بشكل مشابه تماماً لحرب الاستنزاف التي تخوضها السعودية ضد الحوثيين -وكلاء إيران في اليمن. لكن ما الأوراق التي استخدمها الرئيس إردوغان لإقناع الرئيس بوتين بالقبول بخطط تركيا في الشمال السوري؟
قمة سوتشي.. تبادل رسائل المصالح
رغم أنه لم ترشح معلومات مؤكدة عمّا جرى في قمة سوتشي بين الرئيسين إردوغان وبوتين، إلا أن لغة الواقعية السياسية التي يمتاز بها الرئيسان والتي أسهمت بحل عدة نزاعات إقليمية ودولية هي ما ميّزت اللقاء. ففي حين يبدو الموقف التركي متأزماً في الشمال السوري، فإن الموقف الروسي أشد تأزماً بعد غزو أوكرانيا وتحوله إلى حرب طويلة الأمد. فالرئيس التركي في موقف محرج أمام الشعب والمعارضة التركية التي تُعدّ لإسقاطه في الانتخابات القادمة، وكذلك أمام أعدائه الخارجيين كالنظام السوري وقسد بسبب عدم قدرته على تنفيذ العملية التي توعد بها مؤخراً. من ناحية أخرى، يبدو الرئيس الروسي غارقاً في حرب وعَد شعبه أن يحسمها خلال أسابيع قليلة. لكن ها هي تدخل شهرها السادس مع ما حَملَتْه من خسائر فادحة للقوات الروسية وما جرّتْه على البلاد من عقوبات اقتصادية وسياسية قاسية جعلت الرئيس بوتين في موقف لا يحسد عليه.
عوامل القوة التركية.. بوادر أمل
تشير الساعات الأربع التي استغرقتها محادثات الرئيسين في سوتشي أن الرئيس إردوغان ألقى ما في جعبته من أوراق القوة أمام الرئيس بوتين لينتزع منه ما جاء لأجله. فمع انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، استطاعت تركيا الاحتفاظ بموقف محايد رغم تزويدها الجيش الأوكراني بعدد من طائرات بيرقدار التي لعبت دوراً حاسماً في الأشهر الأولى من الغزو. لكن يبدو أن تركيا جمدت لاحقاً تزويد أوكرانيا بأعداد إضافية من هذه الطائرات (لتجنب التصادم مع روسيا)، كما استضافت المباحثات الأوكرانية الروسية لمحاولة إنهاء الحرب. فاستغل الرئيس بوتين هذه المباحثات ليسحب قواته من محيط كييف ويعيد نشرها في إقليمي لوهانسك ودونيتسك، وليتلافى بذلك الخسائر التي كادت تطيح به في الأشهر الأولى من الغزو. كما استطاعت تركيا التوسط مجدداً بين الطرفين لتنجح بالتوصل لاتفاق إسطنبول لتصدير القمح الأوكراني إلى دول العالم. وجاءت معارضة تركيا انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو لتزيد من الحاجة الروسية لتركيا إذْ وفرت عليها إعلان الحرب على دول جديدة على غرار ما فعلت مع أوكرانيا.
رغم الملفات الأخرى التي تناولتها قمة سوتشي، إلا أن الشعب السوري يترقب "رياح التغيير" التي وعد بها الرئيس بوتين كما ينتظر إثبات الرئيسين قدرتهما مجدداً على تجاوز المأزق الراهن في الشمال السوري. وفيما تبدو مرحلة الانتقال السياسي بعيدة المنال، فإن أهالي منبج وتل رفعت يتوقون للعودة إلى بيوتهم التي هجرهم منها تنظيم قسد بدعم روسي. حتى إذا لم تحصل تركيا على ضوء أخضر روسي للسيطرة عليهما معاً (بسبب تمسك إيران الشديد بتل رفعت التي تشكل حزاماً يحيط ببلدتي نبل والزهراء الشيعيتين)، فمن المرجح أن تكون السيطرة على منبج فقط حلّاً مُرْضياً لجميع الأطراف. وستبرهن الأيام القادمة أن لغة المصالح في قمة سوتشي أقوى من رسائل النار بعد لقمة طهران.