تطوّرت حالة الإنسان العربي عبر تاريخ تشكّل الاجتماع السياسي متدرّجة عبر مراحل مختلفة، فبدأت، كما نعرفها نحن على الأقل، مع مرحلة الانتماء إلى القبيلة باعتبارها جماعة مختلفة عن جماعات أخرى مماثلة في الجوهر ومتمايزة في المظهر، ثم انتقلت إلى مرحلة الاندماج في الجماعة الكبرى مع بدء الدعوة الإسلامية وخلال شطرٍ وازنٍ من مراحل تأسيسها وتثبيتها، بعد ذلك دخلت في مرحلة الرعوية التي ترافقت مع مرحلة بناء الدولة الإسلامية وانتقال الحكم إلى شكل الملك وما يستتبعه من تركيز للسلطة وتغيير مرجعيتها، ولم تصل إلى مرحلة المواطنة لأسباب كثيرة سنقف على بعضها هنا.
في مرحلة القبيلة كان الفرد مُعرّفًا بانتمائه إليها وجودًا وعدمًا، وكانت فرديته تذوب فيها بحيث لا يمكنه الخروج على القواعد الناظمة لعقدها القبلي. وعلى سبيل التأكيد على هذه العلاقة كان النفي من إطار القبيلة أقصى عقوبة يتلقاها العاصي لقوانينها، ويلخّص بيت الشعر لصاحبه الشاعر دُريدُ بن الصمّة: "وما أنا إلا من غزيّةَ إن غوت غويتُ وإن ترشد غزيّةُ أرشدِ" هذا المنطق. كانت ظاهرةُ الصعلكة إحدى أهمّ نزعات الفرديّة المبكرة في تلك المجتمعات، ولا غرابة أنّ الصعاليك كانوا يعيشون خارج حدود القبيلة وحمايتها، فكان مبدأ قطع الطريق بالنسبة لهم مستندًا إلى نفس مبدأ الغزو باعتبارهما شكلين واقعيين لاستمرار الحياة وجزءًا من الدورة الاقتصادية البسيطة، لكنّ الصعاليك بحكم خروجهم عن منطق القبيلة ذاتها كانوا لا يفرّقون بين قبيلتهم التي مرقوا منها وبين أية قبيلة أخرى لتأمين سبل العيش. لكنّ الصعلكة ما كان لها أن تستمر وتتطور لتأخذ نمط الفردية الذي نعرفه الآن، فهذه الأخيرة نشأت متأخرة مع عصر الصناعة حيث الحاجة لرابطة جديدة بين رأس المال واليد العاملة لا تمرّ عبر أي وسيط.
جاء الإسلامُ لينقل الانتماء من جماعة القبيلة الضيقة القائمة على خط النسب وقرابة الدم، إلى الاندماج في جماعة أوسع قائمة على خط العقيدة. جاء التغيير هذا سريعًا وعنيفًا على بنيةٍ اعتادت الثبات ردحًا طويلًا من الزمن، فكان سلوك الأفرادِ الأوائل الذين تلقوا هذه الانعطافة بحكم قربهم من الرسول محمد (ص) دالًّا على تمثلهم قيم الجماعة الجديدة، وهنا كان اختيار أبي بكرٍ الصدّيق عبد الله بن قُحافة أوّل خليفة ضمن سياقٍ طبيعي يقطع مع القبيلة، وإلا لكان الأولى بها أعمام الرسول أو أبناءُ عمومته. إضافة إلى الأبعاد الأخرى، يمكن إرجاعُ الصراعِ بين علي بن أبي طالب (ك) وخصومه في أحد جوانبه إلى ما وَقَرَ في الضمير الفردي من نزعاتٍ قبلية لم تقضِ عليها الدعوة كليًا. هنا، في مرحلة النبوّة وفترة خلافة أبي بكر وعمر (ر)، كان مدّ الانتماء إلى الجماعة الإسلامية متصاعدًا، وهي التي آخت بين المهاجرين والأنصار وساوت بين الأحرار والعبيد والأغنياء والفقراء باعتمادها معادلًا موضوعيًا مختلفًا هو التقوى. لكن مع بدء حروب الإخوة من الصحابة بدأ الشرخ، وتحوّل ثانية منطق الولاء إلى جزئيات متفرعة عن الكل، فظهر منطق التشيّع لعثمان ثم لعلي، وتطور ليصبح فيما بعد الانقسامات المعروفة بين سنّة وشيعة ومذاهب تسبح في فضاءاتها المختلفة.
المواطنة تقطع مع الاستبداد، لذلك كان عسيرًا جدًا ولادتها من رحمه، فجاءت الثورات كأنها عمليّة قيصرية تحاول مساعدة الجنين على جنون أمّه وتشبثه
مع تحوّل الدعوة إلى دولة، تحولت السلطة من الاستناد على مرجعيتها الشرعية الأولى القائمة على انتقاء الأصلح والأكثر انتماءً لمنطق الجماعة الدينية إلى مرجعية الغَلبة، أي من اعتبارات الأخلاق والمبادئ السامية للدين الجديد إلى اعتبارات المصالح وتوازنات القوى القائمة على قوانين التاريخ والعمران البشري. هنا تحوّل فكر الطاعة من كونه فضيلة أخلاقية تعني الالتزام بموجبات وحدة الجماعة والدين، إلى فكر الرعوية باعتباره امتثالًا لأوامر الحاكم ونواهيه. في المرحلة الأولى كان الفردُ، ضمن ظفرين يحددان كيانه جزءًا من الجماعة الكبرى، عنصرًا مشاركًا في صناعة السياسة بشكل أو بآخر، بينما تحوّل في الثانية إلى موضوع للسياسة والحكم. عاد التماثل بين مبدأ رعاية المالك لقطعان ماشيته وبين قيادة الحاكم لمن هم تحت سيطرته، فالموضوعان في المثالين كليهما هما مناط السيطرة والسلطة. هذا ما أشار له ميشيل فوكو عندما رأى أنّ العقل السياسي الشرقي القديم كان محكومًا بثنائية الراعي والقطيع، وأنّ البنية الرعوية الاقتصادية المسؤولة عن تدبير الحياة اليومية قد انتقلت إلى بنية سياسية.
استمرّ حال الرعوية في مجتمعاتنا العربية طيلة قرون، ولم يبدأ فعلُ كسر حلقاته المتراصّة إلا مع اندلاع ثورات الربيع العربي، باعتبارها كانت، أي الثورات، تعبيرًا في الجوهر عن رغبة جامحة وحاجة طبيعية تؤيدها قوانين الاجتماع الحديث للخروج إلى ساحة الفعل الجماعي. كانت إرادة الشعوب الثائرة تطرح في العمق مسألة التحوّل من موضوعٍ للحكم إلى مشاركٍ فيه، لهذا كانت الحرب شرسة ومدمرة وطويلة الأمد. فعلى الرغم من مجموعة التشريعات التي سنتها الدول العربية الحديثة، والتي بالمناسبة كانت في شكلها تؤسس لبناء علاقة جديدة بين الجماعة (الدولة) وبين أفرادها، إلا أنّ فلسفة الفكر السياسي لم تخرج عن منظومة الحكم السلطاني، أي الإبقاء على جوهر العلاقة بين حكّامٍ ومحكومين من دون أية مشاركة فاعلة من الطرف الثاني مع الطرف الأول.
المواطنة تقطع مع الاستبداد، لذلك كان عسيرًا جدًا ولادتها من رحمه، فجاءت الثورات كأنها عمليّة قيصرية تحاول مساعدة الجنين على جنون أمّه وتشبثها. تختصر مقولة: "الأسد أو نحرق البلد" فكر الرعوية وتكثّفه. القائمون على فعل مقارنة الأسد بالبلد وحرق الثانية مقابل الأول، هم ذاتهم من كانت تستهدف الثورات نقلهم من مصافّ الرعايا إلى مصاف المواطنين، لكنّ الإنسان عدوّ ما يجهل. هنا تأتي الصورة معكوسة عن حال الفرد أيام القبيلة وأشعارِ دُريد بن الصمّة، هنا يتحول فعلٌ الانتماء الطوعي والطبيعي إلى القبيلة ليصبح إدماجًا قسريًا للقبيلة بالفرد، للمجتمع بالحاكم المستبدّ. وهكذا تطول مسيرة العربي من القبيلة إلى الوطن، فتحلّ الجماعة المتخيّلة محلّ المواطنة، ويغيب معيار المساواة في الواجبات والحقوق بين الأفراد المواطنين، ليسود معيار السيطرة ونفي الآخر الغريب عن روح الجماعة/ القبيلة المعكوسة/ أو الطائفة. ويبقى الطريق الواصل ما بين القبيلة والمواطنة وعرًا مليئًا بحفر الاستبداد وعوائقه.