لطالما طرقت مسامع الجميع مقولة "الشعوب على دين ملوكها"، قبالة ذلك ترددت على ألسن كثير مقولات عن شعب ما بأنه شهم وشجاع وكريم، وعند حدوث معضلة تعصف بالبلاد ينصدم القائلون أنفسهم بخطأِ تصورهم.
يوم كان العراقيون يحاربون إيران في ثمانينيات القرن المنصرم كان التصور العام يدور حول الشجاعة والإقدام وتبرع النساء العراقيات بمصاغهن لدعم اقتصاد الحرب، ثم بعد احتلال بغداد ظهرت صور العراقيين صادمة ومخيبة، الفلسطينيون كذلك، وآخر تلك التصورات أن السوريين أبطال ومثقفون وشجعان منتجون قبل الثورة وحينها، والآن تتلاحق التعميمات تترى في الصدمة من سوري يخطئ في هذي البلاد أو تلك، حتى أن احتفاء هائلا يحصل في وسائل التواصل إذا وجد سوري مبلغا من المال وسلمه إلى السلطات؛ وكأنه قد نفذ عملا ناشزا ونادرا أو لكأنه صار على السوري البحث عن أي حدث يجب عنه تهمة السوء، ويتناسى الجميع أن لحظة غياب الدولة كإطار سياسي وقانوني -متفق أو مختلف عليه- وغياب الاستقرار في النظام الاجتماعي سيشكل مجالا لظهور الفوضى والرعاعية كما ناقشها ابن خلدون، والتي توجد في أي شعب في غياب الضابط الأخلاقي والقسري الذي يمثله القانون؛ إذ يظهرون كأفراد اكتسحتهم نزعة من البدائية مدفوعين بالخوف للاحتماء بأي عصبة، أو منفلتين من أي وازع لغياب الردع الاجتماعي المشتت في أثناء الحرب، رغم ظهور رأسمال اجتماعي للبنى التقليدية يسد النقص عبر نسق جزئي ناظم لخلافات الناس، وضابط أخلاقي لنوازعهم للموازنة بين صراع المصالح لدى الأفراد والجماعات عبر العرف، تدفع تلك الظاهرة إلى التبصر بالهامشية ومجالاتها في مجتمعاتنا المبتلاة بحكامها.
يمكن لعلم الاجتماع تلمس مفاتيح جديدة وأدوات في البحث يمكن عبرها إعادة النظر في الشعوب المهمشة والمهشمة بين سندان الفقر ومطرقة الأنظمة بآن.
تكتسب الفئات الهامشية قيمة من حيث إنتاجها تفريغا أو خروجا على السلطة في مستوى لا يهدد الأخيرة، غير أن دراسات الفئات الهامشية في المجتمع ماتزال محدودة ونادرة، مادام النقص الحاد يطول علم الاجتماع عموما في بلداننا، إذ بقيت مجتمعاتنا حبيسة دراسات استشراقية من خارجها، أو دراسات رسمية مرتمية في أحضان مؤسسات الحكم والسلطة، أو منضبطة بالحدود التي وضعتها، مايحيل مجتمعاتنا نفسها إلى درجة من الهامشية؛ تبعا لهامشية الشعوب التي لا يستحضر حراكها إلا في موسم تأييد وتصفيق حين انحسرت الدولة إلى السلطة التي برع النظام العربي عموما في تمثلها واحتكارها.
ثمة سمة تتصف بها الفئات الهامشية تنسحب على معظم شعوبنا على الأقل في مستوى العامة، وهي شعور تلك الفئات بأن الدولة لا تخصها ولا تمثل لها إطارا أو وعاء وطنيا يعبر عنها، ولا يعتبر قانونها سوى رادع قسري يجب التهرب منه، ما يفسر كيف أن المواطن يرى أن مال الدولة لا يعنيه ومؤسسات الدولة لا تخصه إلا بمقدار ما تقدمه من نفع مباشر له، وحيث المال العام ضحية نهب المسؤولين فلم لا يحاول المواطن البسيط من الشعوب المهمشة نهبه، هنا تصبح محولة الكهرباء، قرض الدولة الزراعي، أو مؤسسات المال العام غنيمة مادامت هناك قدرة على التملص منه، وهو ماحصل في المناطق التي انحسرت عنها سلطة النظام فظهر ماظهر .
إن هزالة كيان الدولة وهشاشة مؤسسيتها، ونمطها الزبائني؛ جعلها تقصر عن أن تكون إطارا لنظام اجتماعي تفرز قواه حراكا سياسيا؛ ينتج دولة تشكل شبكة ثقة وضمان لجميع مواطنيها، وهو ما يدفع باتجاه تفشي ذهنية الغنيمة لدى الأفراد والجماعات، والبحث عن ميدان نفعي ينهض بسبل الحياة لديهم، ويحيدهم عن السياسة إلا في مجال التخادم والوظيفية التي تتطلبها كتلة سياسية تمتلك السلطة.
في النمط الغالب لدى الدول لابد وأن تكون هناك هوامش للحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد؛ إذ تظهر الهوامش على شكل مناطق نفوذ لاتدخلها الدولة حتى في بعض أحياء أوروبا، وتكون مساحة لأنشطة المافيا وغيرها مع خرق أمني وترابط وظيفي فيما بينها، في المشرق تذهب السلطة المختزلة للدولة إلى نذر جزء من مؤسسات الدولة ووظائفها إلى من تريد توظيفه للاشتغال بما يخدم سياستها، تغيب الجماعة الأهلية؛ وتحضر الجماعة الاجتماعية كبنية قبلية أو طائفية قابلة للاستثمار، كما تغيب الطبقة في غمرة اتساق قسري يعيشه المجتمع وفقا لحدود مرسومة، وقد يرجع بعض الدراسين ذاك السلوك إلى جذر قديم يشكل نمطا أوليا للاجتماع بين الأفراد وهو القبيلة؛ لكن نمط الدولة يدفع باتجاه هذه الذهنية لدى الأفراد حتى بين أبناء المدن وأبناء البيئات غير المترابطة عرقيا لتصبح أسلوب حياة وتنفع من إقطاع الدولة الموزع زبائنيا ليأتي فيما بعد التحشيد الحزبي لانتخابات يظهر فيها أثر الفرد في استقطاب أفراد آخرين قد يفرد لهم مكانا في مرحلة قادمة.
المجتمع يزخر بكل احتمالات القوة ذات المدلول الموّار بقوة الانفتاح، والتعدد المنفتح على احتمالات الحياة، وإمكان البناء تحت حتمية الانتظام ولو من رحم الفوضى.
يمكن لعلم الاجتماع تلمس مفاتيح جديدة وأدوات في البحث يمكن عبرها إعادة النظر في الشعوب المهمشة والمهشمة بين سندان الفقر ومطرقة الأنظمة بآن، ودراستها بشكل محايث لما تم إنجازه عن الفئات الهامشية في دراسات علم الاجتماع الغربي حول البروليتاريا الرثة، أو مدن الصفيح وفقا لتعبير "هربرت ماركيوز"، التي مثلت بؤرة استثمار لأي قوة غاشمة، ومستعدة لأن تتحول إلى أداة سلطة متوحشة وربما سلطة في غفلة من فوضى الدولة.
تأتي أهمية دراسة المجتمعات العربية والمشرقية وفقا لهذا المنظور من كونها ستقود إلى مقاربة أكثر دقة في توصيف سلوك أجزاء وازنة من البنى الاجتماعية مادون الدولة (قبيلة، طائفة، إثنية) وإشكالات التفارق الثقافي بين ريف ومدينة؛ عرب وكرد وتركمان وشركس، وأمازيغ وبربر، وتخرجنا من القراءات الجوهرانية المتقابلة لتلك البيئات، وتفكك حمى التنابذ القيمي والتناشز الاجتماعي التي استفحلت في ساحة التداول الثقافي العربي، مع ضرورة التوجه نحو قراءة جديدة وغير ملتزمة بخط الدراسات الأوربية لفئاتها حيث أن منظومة قيمية مشرقية ما فتئت تؤثر في سلوك كثير من أبناء الفئات الهامشية في بلداننا؛ باعتبار أن الهوامش التي شغلتها لم تكن نتيجة لشتات شبيه بالمجتمعات الغربية، حيث وحدها مجموعات الغجر العرقية تحمل قيمها الخاصة وتتمايز عن غيرها قيميا في بلداننا.
كما أنها ستفيد في فهم عصبة الأفراد ،أو عوامل تجمعهم حول مشروع سياسي تبعا لنفعية ما باعتبارها منعكسا لنمط الدولة الزبائني، هنا لايظهر ابن القبيلة كفرد قوي بعصبته؛ بقدر ما يظهر بوجوده في وسط يتصف بوجود علاقات واسعة تقوم على مبادئ بسيطة عامة ومحيط مفتوح على التعارف البسيط؛ الذي يمكن أن يفضي لتشكيل جماعة تنتسب لهذا الحزب أو ذاك؛ ما جعل الأحزاب تبحث عنه وتوليه بعض الاهتمام لقدرته على تأمين حشد برعت فيه الأحزاب عموما ليكون كل حزب قبيلة وتبعا لذهنية الشيخ والمريد كما ناقشها الأنثروبولوجي عبدالله حمودي.
لاشك بوجود فروق بين مجتمع الدولة المهمش، والفئة الهامشية في مجتمع ما، فالفئات الهامشية التي درسنا بعضا من مأثورها في الإطار التأريخي العربي لها في نطاق أدبها في العصر العباسي وماتلاه، تناولتها دراسات غربية عدة في المجتمع الأوربي، ودرست سلوكها كفئات اجتماعية مفتوحة لكل من لم يدخل سوق العمل في المجتمع، فأصبحت جماعات لا بنية لها؛ تعيش على هامش الحياة في العشوائيات على الأرصفة، وفي الأزقة ومدن الصفيح بلا قيم ولا أخلاق، لتمارس أي عمل يكسبها قوتها ولو كان أرذلها.
في حين أن المجتمع يزخر بكل احتمالات القوة ذات المدلول الموّار بقوة الانفتاح، والتعدد المنفتح على احتمالات الحياة، وإمكان البناء تحت حتمية الانتظام ولو من رحم الفوضى، كما أن مفردة المجتمع المهمش تعد تعبيرا واعدا ليس لدلالة التهميش الذي عاناه فحسب؛ بل بكون المفردة تتضمن تصويرا لظلم طارئ قد تنتفض الضحية فيه وتغير التاريخ سواء بقوة الإيمان بحقها أو بحتمية التاريخ.