ملخص:
المقال يتناول مفهوم الحضارة وتطور استخدامه، بدءًا من فيكتور دو ريكوبيه في القرن الثامن عشر إلى استخدامه الحالي كأداة عنصرية. يستعرض المقال أمثلة على العنصرية التي تواجه السوريين في المهجر، مشيرا إلى تصريحات تنم عن شوفينية الرفاه وتفوق حضاري زائف. كما يناقش الكاتب كيفية تجذر العنصرية في الطبقات الأرستقراطية القديمة، منتقدا استخدام تقنيات حديثة وأدوات مادية كالغسالة لقياس "التحضر". يقارن النظرة القومية والعنصرية، ويؤكد أن الحضارة تتجاوز الأدوات المادية لتعكس تطورا أخلاقيا وعقليا أعمق.
ظهر تعريف الحضارة بمعناه الحديث الشامل في أوروبا خلال القرن الثامن عشر على يد الفيلسوف الفرنسي فيكتور دو ريكوبيه الذي يعد من بين الأوائل الذين استخدموا كلمة "La civilisation" في الفرنسية نحو عام 1750 وكان يعبّر بها عن تقدم الإنسانية وتطورها الثقافي والاجتماعي، وأثار المصطلح منذ ظهوره الأول كثيرا من الجدل عن معناه وشموليته.
لم يكن على السوريين قبل 2011 فَهْم هذا النقاش ودلالته وربّما اقتصر على "نخبهم" أو أثيرَ بين سكان المدن في حديث عابر للتفريق بينهم وبين الريف وبين مدينة وأخرى، أو للإشارة إلى تاريخ البلاد الذي كان مهدا لأهم الحضارات في التاريخ التي تعود إلى الألفية العاشرة قبل الميلاد، خاصة أن سوريا تقع في منطقة الهلال الخصيب حيث ظهرت الزراعة والاستيطان، وفيها إيبلا (تل مرديخ)، التي كانت مركزا حضاريا مهما نحو 2500 ق.م، ومعروفة بمكتبتها من الألواح الطينية. وأوغاريت (رأس شمرا)، قرابة 1400 إلى 1200 ق.م، التي اشتهرت بابتكار أول أبجدية.
واجه السوريون معنى الحضارة من باب عنصري، وللحطّ من قيمتهم في بلاد اللجوء، حين قال السياسي التركي المعارض تانجو أوزجان الذي تولى رئاسة بلدية بولو: "السوريون متأخرون عنا بنحو 30 عاما. وكذلك العراقيون. لكن الأفغان متخلفون عنا بمقدار 100 عام".
في أوروبا حيث تلقّى السوريون عنصريةً أقلّ في البداية وكانوا يعاملون من شعوبها بالتسامح المتعالي مع بشر أقلّ مرتبة هربوا من مناطق حرب. ظهر نقاش الحضارة مرة أخرى لكنْ من باب استخدام الأدوات، وقالت مفوضة الحكومة الألمانية لشؤون الاندماج في ولاية بافاريا جوردون بريندل فيشر بعد لجوء الأوكرانيين إلى بلادها، إنهم يعرفون استخدام الغسالة ولا يطبخون على الأرض مثل السوريين والأفغان. ولنا أن نذكر أيضا عجوزا هولندية تسأل في تقرير تلفزيوني شابة سورية باستغراب "هل لديكم غسالة في دمشق؟!".
ولا يمكن إخراج هذه التصاريح التي تطفو على السطح على لسان مسؤولين سياسيين بعد أن كانت حبيسة القاع، عن سياقها العنصري. لكن أي عنصرية، وإلى ماذا تستند؟ إلى عرق أم لون أم دين؟
في كتاب "الجماعات المتخيلة" لبينديكت أندرسون، الذي يبين كيف تتبرأ القومية من العنصرية التي تنبع أصولها من الطبقات الأرستقراطية في الإمبراطوريات. هذه الطبقات اعتمدت على تراتبية طبيعية استنادا إلى الاختلافات في لون البشرة، والطبائع، واللغات لتبرير سيطرتها على الشعوب. قبل اعتناقها للأفكار القومية، كانت هذه الطبقات تعارض القومية وتبني هرمية طبيعية ضد الفقراء، وحافظت على هذه الهرمية حتى بعد تبنيها للقومية بشكل مصطنع ومتأخر.
أندرسون يشير أيضا إلى أن العنصرية ترتكز على النزعة الأرستقراطية المتعالية التي تعامل الفقراء محليا، والسكان الأصليين في المستعمرات، والشعوب الأخرى بنظرة دونية. العنصرية ليست قومية ولا صيغة من صيغ القومية، بل تنكر القومية للخصم أو العدو، مختزلةً إياهم إلى مجرد ملامح بيولوجية، مثل تحويل الفيتنامي إلى "سلانت" (اختصار لـ "عيون مائلة")، وتحويل الجزائري إلى "راتون".
في حين تفكر القومية بلغة التاريخ والمصائر التاريخية، تفكر العنصرية بلغة الطبيعة الأبدية. تُنكر العنصرية القومية على الآخرين وتجعلهم خارج التاريخ، مغرقةً إياهم في الطبيعة والفساد، كما تجعلهم كيانا غير تاريخي. هذه النظرة العنصرية تبدأ من تبرير الأرستقراطيات لسلطتهم بناء على نظريات طبيعية وعلمية لتفوق السلالات الحاكمة، وتمتد لتبرير تفوق السلالات العرقية والإثنية.
شوفينية الرفاه
بينما يبرّئ بينديكت أندرسون القومية من تُهم العنصرية المعاصرة، تظل نظريات التفوق العرقي واللوني، التي كانت شائعة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، قائمة في بعض النفوس اليوم. أثار جوزيف آرثر دو جوبينو سعادة بين كثير من الأوروبيين البيض بنشره دراسة "التفاوت بين الأجناس البشرية" بين عامي 1853 و1855، حيث ادّعى أن الجنس الآري أعلى بطبيعته من الأجناس الأخرى، وأن الأجناس البيضاء هي مصدر جميع الحضارات.
أكد جوبينو أن الظروف الزراعية وحدها لا تفسر ظهور الحضارات؛ فعلى سبيل المثال، نشأت الحضارة المصرية في تربة خصبة ترويها الأنهار، في حين لم تظهر حضارة مماثلة بين "الهنود" في أميركا الشمالية رغم توفر تربة خصبة مماثلة.
نشر هيوستن ستيوارت تشامبرلين في عام 1899 "مؤسسات القرن التاسع عشر" بالألمانية، حاصِراً العرقَ الآري في الجنس التيوتوني فقط. وفي أميركا، نشر ماديسون جرانت في عام 1916 "انحدار السلالة العظيمة"، محددا الإنجازات الحضارية بفرع من العرق الآري، النوردي، شاملا السكيثيين والألمان البلطيق والإنجليز والأنجلوساكسونيين.
إذا كان إظهار شوفينية الرفاه يُعبّر عن صفات تذمّها معظم الشعوب وهي البخل أو الحسد، وإذا التبس على العنصري اللون أو القومية أو الدين فإنه يستل مقياسا عصريا وهو الحضارة.
يفند ول ديورانت هذه النظريات في كتابه "دروس من التاريخ"، مشيرا إلى أن نقاط ضعف نظرية الأعراق واضحة. يذكر أن مثقفا صينيا يمكن أن يشير إلى أن الصينيين أسسوا واحدة من أكثر الحضارات تطورا، تضمّ رجالَ دولة ومخترعين وفنانين وشعراء وعلماء وفلاسفة ورجال دين منذ عام 2000 قبل الميلاد حتى اليوم. كمّا أنَّ أبناء العرق السامي سيتذكرون الحضارات البابلية والآشورية، في حين يمكن لأتباع النبي محمد أن يسردوا قصص الحكام والفنانين والشعراء والفلاسفة من بغداد إلى قرطبة، بينما كانت أوروبا تشق طريقها خلال العصور المظلمة.
وإذا لم نستطع تفسير العنصرية التي تواجهنا في العرق أو القومية أو الدين يمكننا أن نسقط عليها المصطلح الذي أورده عزمي بشارة في كتابه "في الإجابة عن سؤال ما الشعبوية؟" وأراه بحسب ما شاهدت الأقربَ لفهم ما يحصل لنا، فيذكر بشارة ما يسميه بيبين كوردوينر بشوفينية الرفاه (Welfare Chauvinism)، التي سميت سابقا بالوطنية الاستهلاكية (Consumer-Patriotism)، ويوضح بشارة أنها تعتبر الآخر الغريب مهددا لمستوى المعيشة ونمط الحياة، وضيفا غير مرغوب فيه على المائدة؛ إذ يقلل حصة المواطنين من الكعكة. وبحسب بشارة تعد هذه القناعة الشعبية المنتشرة تعبيرا عن انطلاء ديماغوجيا مؤلفة من آراء مسبقة ومغالطات اقتصادية على وعي الناس اليومي. فالهجرة من أهم عناصر النمو في البلدان المستقبلة لها، ولا سيما البلدان ذات الاقتصادات الرأسمالية المتطورة التي دخلت منذ زمن طويل في مرحلة الإحلال ديموغرافيا.
الحضارة كأداة عنصرية
وإذا كان إظهار شوفينية الرفاه يُعبّر عن صفات تذمّها معظم الشعوب وهي البخل أو الحسد، وإذا التبس على العنصري اللون أو القومية أو الدين فإنه يستل مقياسا عصريا وهو الحضارة. واستخدام مفهوم الحضارة في العنصرية يتمثل في توظيفه لرسم خطوط فاصلة بين "نحن" و"الآخرين"، حيث تُعتبر بعض الشعوب أقل حضارية وبالتالي أقل قيمة. يتضمن هذا التمييز معايير مثل التفوق الثقافي، والمعايير الأخلاقية والتطور الاقتصادي، ولعل الأخير أكثر ما واجهه السوريون فالصورة الذهنية عنهم في مجالات مثل التكنولوجيا، والتعليم، والبنية التحتية تعتبرهم أقل تطورا في هذه الجوانب وبالتالي "أقل" في المرتبة الحضارية.
هل الحضارة خط زمني كما تخيلها رئيس بلدية بولو؟ أم هي تطور تقني وأدوات (غسالة) كما تفهمها مفوضة الحكومة الألمانية لشؤون الاندماج في ولاية بافاريا؟ يجيب عن هذا إبراهيم كالن في كتابه "بربري، عصري، متحضر".
يفتتح كالن كتابه بخبر وبيت شعر ويقول الخبر إن علماء اكتشفوا قبيلة بدائية في غابات الأمازون لا يستخدم أفرادها سوى القوس والنبال
ولا تعرف شيئا عن التكنولوجيا المعاصرة، وهناك مئة قبيلة مثلها في العالم بعيدة عن الحضارة، ويُختتم الخبر بعبارة "قتل المنقبون عن الذهب قرابة عشرة من أفراد القبيلة".
بيت الشعر لليوناني قسطنطين كفافيس يتحدث عن مدينة مضطربة تنتظم فجأة حين تنتشر شائعة تقول إن "البرابرة قادمون" فيستعد الجميع للخطر القادم، وعندما يحل المساء يكتشف السكان أن لا وجود للبرابرة فيصابون بخيبة أمل "والآن ماذا سيحل بنا من دون البرابرة؟ هؤلاء البرابرة كانوا حلا من الحلول؟".
تُصور القبيلة على أنها بدائية لأنها لا تستخدم التكنولوجيا ويُنظر إليها باستغراب من أبناء "الحضارة" لكن في النهاية قتلوا لأجل الذهب. إذاً، من هو البدائي والبربري؟ يكشف كفافيس عن الوظيفة التنظيمية للبرابرة وكيف حزن الناس بدل أن يفرحوا بعد أن اكتشفوا وهمية قدوم البرابرة، وكأن غيابهم ترك سكان المدينة مع مشكلاتهم الحقيقية التي يجب أن يحلّوها بأنفسهم وليس عن طريق تهديد وهمي. يقول كالن "لا تأتي فرصة بناء حضارة من خلال اعتبار الجميع برابرة كي يشعر المرء بأنه متحضر".
الحضارة تتعدى مجرد الثقافة والعادات والتقاليد، إذ تشمل مجموعة شاملة من المواقف والسلوكيات تجاه الوجود وتستند إلى مبادئ عقلانية وأخلاقية وجمالية تُشكل الأساس للصيغ الثقافية.
البربرية والتحضر في عالم واحد
ينتقد كالن الواقع الافتراضي الذي أنتجته وغذَّته التطورات الحديثة وما بعد الحداثة، والظروف التي وصفها بودريار وإيكو بأنها "واقعية مفرطة"، بالإضافة إلى ثقافة المتعة والإمكانات التكنولوجية المتقدمة وأنظمة الاستهلاك، قد تحولت جميعها إلى خلق واقع مصطنع ومرن يمكن التلاعب به بكل الطرق والأشكال. المجتمعات الصناعية المتقدمة، التي تعمل تحت شعار "لا شيء مستحيل"، فتحت الباب أمام تجارب وجود وشعور تتجاوز الربح، وتُعامل هذه الأشكال كجزء من الواقع الجديد. اللافت هو أن الأفراد الذين يتمتعون بالعقل والإرادة لا يرون هذا الواقع الافتراضي كوهم أو خدعة، بل يقبلونه كقيم بديلة عن طيب خاطر ومعرفة.
يهدف عنوان الكتاب إلى تقديم صورة واضحة عن الواقع، حيث تتلاقى فيه البربرية والحداثة والتحضر في آنٍ واحد. البربرية لا تزال موجودة بأشكال متعددة، تظهر في سعي حثيث للحصول على الرغبات بطرق قسرية وغير عقلانية ولا أخلاقية. هذه الممارسات تسترت تحت مظلة الحداثة والتقدم والتنمية والمصالح القومية والمنفعة الاقتصادية والإنتاجية، وغيرها من الشعارات التي تخفي خلفها وجهها البربري.
يقول كالن إننا نواجه مشكلة فلسفية وسياسية حول المعايير التي تُعتبر بموجبها مجتمعات معينة متحضرة. الجدل يتمركز حول ما إذا كان التقدم في العلم والتكنولوجيا يعرف الحضارة، أو إذا كانت تعني الرأسمالية والتجارة كما ادّعى رأسماليون في القرن التاسع عشر، أو هل الالتزام بالقانون هو ما يجعل مجتمعا حضاريا؟ وهل الفكر الديني والأخلاقي والجمالي يمكن أن يكون مقياسا للحضارة؟
يعيد الكتاب المفهوم بمعناه المتعالي في الغرب إلى الطبقة. حيث استخدام "التحضر" (Civilite) قبل "الحضارة" في القرن الثامن عشر لم يكن مصادفة، فهو يعبّر عن وضع اجتماعي يتضمن مواقف وسلوكيات البرجوازيين والأرستقراطيين. هذه النخب كانت تعتبر نفسها متفوقة، مما أعطى قواعد السلوك والمجاملة (Courtesy)، المنحوتة من كلمة (Court)، طابعا اجتماعيا وسياسيا.
هذه القواعد، التي تضمنت آداب الطعام والزي وأسلوب الكلام، لم تُستخدم فقط للفصل بين الطبقات داخل أوروبا، بل تُستخدم أيضا للتفوق على المجتمعات غير الأوروبية، مما يوحي بأن هوية قومية خاصة تطورت مع الزمن.
الحضارة كخط زمني
نعود هنا إلى تصريح رئيس بلدية بولو الذي قاس الحضارة بالزمن، يبين كالن أن مفهوم التقدم يُعد من أبرز أفكار الحداثة ومعيارا أساسيا للحضارة، ويعتمد على الاعتقاد بأن الحاضر أفضل من الماضي والمستقبل أفضل من الحاضر، وهو غير قابل للرجوع (Irreversible). بينما لا يمكن تغيير هذا المسار، يمكن إدراكه كحقيقة قسرية ومسألة معرفية.
لكن، لا يمكن تحليل مفهوم "الأفضل" المرتكز في فكر التقدم فقط من هذه الزاوية. التقدم الحديث يمثل أكثر من مجرد تزايد التقنيات بشكل تراكمي؛ إنه يشير إلى مسار نوعي يعكس تحسنا متواصلا في التفكير، والإنتاج العلمي والفني، والنظام السياسي، والمعايير الأخلاقية.
فلاسفة مثل أفلاطون، وابن خلدون، وفيكو، ونيتشه، وشبنغلر عارضوا فكرة المسار المستقيم للتاريخ، مفضلين نموذجا دائريا يعترف بأن التاريخ يتحرك وفق دورات بدلا من التقدم المستمر. تعرض هذا الفكر لتحولات بعد عصر التنوير، مع نقاط تحول وعودة تدل على أن الأحداث أو الفترات الماضية قد تكون أفضل من حيث المعايير الأخلاقية والاجتماعية مقارنة بالحاضر أو المستقبل.
ظهرت تراتبية الحضارات كمحاولة لمواءمة فكرة التقدم ذات المركزية الأوروبية. يُقبل اليوم تقسيم تاريخ الإنسانية إلى عصور قديمة، ووسطى، وحديثة من دون تمحيص، على الرغم من أن هذه الطريقة من التقسيم تنطبق فعليا فقط على جزء من التاريخ الأوروبي. تستند هذه الفرضية إلى أن جميع الحضارات تمر بالمسارات التاريخية نفسها، يرى كالن أنه من السخرية القول بأن الحضارتين الصينية والهندية "القديمتين" مرتا بفترة "العصور الوسطى".
من المنظور نفسه، كيف يمكن تصنيف أي فترة من الحضارة الإسلامية كعصور قديمة أو وسطى أو حديثة؟ ويؤكد الكاتب على ضرورة رفض إطار التقسيم الزمني الذي يتميز بالمركزية والتقدمية الأوروبية، "لكن يبدو أننا لا نمتلك حاليا الأدوات الفلسفية والمفهومية والتاريخية اللازمة لتحدي هذا النموذج، بالإضافة إلى عدم وجود الثقة الكافية للقيام بذلك".
الغسالة كأداة حضارية
مقياس استخدام الغسالة الذي صنفت على أساسه المسؤولة الألمانية اللاجئين ووضعت لهم مراتب، تبعا لفرضيتها بعدم قدرة السوريين والأفغان على تشغيلها، نجد لها جوابا أو أكثر في الكتاب الذي يناقش التقنية كميزة رئيسية في حضارة اليوم.
في فصل يسميه كالن "الحضارة كوسيلة للاستعمار" يذكر كيف يُعرف بعضهم الحضارة بمدى انتشار المنتجات الصناعية الأوروبية في بلد معين. مثال على ذلك الدراسة التي أجراها فرانسيس بوفورت على السواحل التركية الجنوبية خلال فترة قيادته للأسطول الملكي البريطاني بين عامي 1811 و1812.
في كتابه، يُظهر بوفورت العلاقة بين الثورة الصناعية الأوروبية والسعي لاكتشاف أسواق جديدة، موضحا أن استمرار الطلب التجاري مع أوروبا سيعود بالفائدة على الطرفين من خلال تبادل البضائع. يتوقع بوفورت أن تطور هذه العلاقات وزيادة الرخاء سيولدان رغبات جديدة ويفتحان أسواقا جديدة للمنتجات الأوروبية. يرى بوفورت أن تحقيق الحضارة والصناعة النصر على "الجهل والكسل" في المناطق التي يسيطر عليها هذان العنصران يعكس كيفية تأثير العولمة والتصنيع.
ينتقد كالن هذه النظرة التي تشير إلى أن "المجتمعات نصف البربرية" لا يمكن أن تصبح جزءا من الأمم المتحضرة إلا بانفتاحها على السوق العالمية واستقبالها للمنتجات الأوروبية، وهي وجهة نظر تعكس المركزية الأوروبية وتقييم الحضارة بناء على المعايير الاقتصادية والصناعية.
خلال اجتماع جائزة نوبل عام 1955، أثار ويندل ستانلي، عالم الكيمياء الأميركي، القلق بقوله إنه سيصبح ممكنا قريبا للكيميائيين التحكم في الحياة وتعديلها بمزج الكائنات الحية وتجزئتها كما يشاؤون. اعتبر الفيلسوف مارتن هايدغر، إعجاب الناس بهذا الحديث نذير مصيبة كبيرة، مشيرا إلى أن التكنولوجيا قد تغير الحضارة الإنسانية بشكل جذري.
مع تقدم الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية، يرى مؤيدو التيار الذي يُعرف بـ"ما بعد الإنسانية" أن تغيير البنية الحيوية والشفرات الجينية للإنسان يجب أن يُعتبر فرصة ينبغي دعمها. هذه التطورات تعد بتغييرات عميقة، لكنها تحمل أيضا إمكانية ظهور كوارث هائلة، من التعديلات الجينية إلى أسلحة الدمار الشامل.
يُرجع كالن إلى أصل الكلمة ويبحث في معنى كلمتي "Technes" اليونانية و"صناعة" العربية فهما تحملان معاني تتعلق بالطريقة، والفن، والحرفة، مشيرتين إلى إمكانية استخدام الوسائل التقنية والتكنولوجية بشكل يحافظ على الجوهر الإنساني والعلاقة مع الطبيعة. هايدغر ومن اتبعوه يرون أنه يمكن استخدام التقنية من دون فقدان الإنسانية أو الحق في التصرف، شرطَ تبني موقف مختلف تجاه الأشياء والوجود. يستخدم هايدغر مصطلح "Gelassenheit" لوصف هذا الموقف، والذي يعني السماح للكائنات بأن تكون كما هي.
تنظم المجتمعات الإنسانية نفسها بابتكار الأدوات وتطوير التقنية والتكنولوجيا، وتبني المدن وتزرع الأرض لتحويل الطبيعة من أجل استمراريتها. الحضارة تمثل هذه الجهود، وتُعتبر قصة كفاح الإنسان ضد الطبيعة. يعتبر كالن تصور التقنية والحضارة كوسيلة لتجاوز الطبيعة لا يعزز التناغم بين الإنسان والطبيعة، بل يبرز التوتر والصراع. هذا السلوك البشري المتمرد يُظهر غطرسة الإنسان الحديث، وينتج ثقافة البربرية، ويُسهم في مشكلات بيئية مثل أزمة المناخ ويمكن إثره أن نخسر فطرتنا الإنسانية أو نقع في فخ العبودية للآليات التي صنعناها بأيدينا.
كل ما يقدمه الكتاب عن التقنية يخلق سؤالا جوهريا بشأنها. هل هي سمة الحضارة فعلا أم أداة استخدامها المتطرف سينهي الحضارة؟
عندما يفقد مجتمع معين بوصلته الحضارية، يعاني أفراده من تشتت العقول وفقر القلوب. تتجه هذه الهويات المفككة إلى البحث عن مركز ثقل أو ملاذ آمن بطرق ملتوية، ولكن دون جدوى. النظام الذي يخلقه عقل سليم، وعالم الروح والمعنويات الذي يغذيه قلب صحيح.
الحضارة والنظرة الكونية
يستعرض إبراهيم كالن تأثير النظرة الكونية العميقة على المجتمعات والحضارات عبر العصور، موضحا كيف أن هذه النظرة يمكن أن تؤثر بشكل جوهري على الحياة اليومية والتصرفات الإنسانية، ومن ثم على تطور واستقرار المجتمعات.
ينطلق كالن من الحضارة المصرية القديمة، حيث يبرز مفهوم "ماعت" الذي يعكس النظام، والانسجام، والحقيقة، والعدل، والخير. يوضح الكاتب كيف أن المصريين القدماء كانوا يؤمنون بأن انتهاك هذه المبادئ يؤدي إلى الفوضى والدمار. يعتبر مفهوم "ماعت" تجسيدا للفهم العميق للنظام الكوني، وكيف أن العيش بعدل يحقق توازنا بين الإنسان والكون.
ينتقل كالن إلى تحليل تأثير ما بعد الحداثة على المجتمعات المعاصرة، مشيرا إلى أن الأنطولوجيا (علم الوجود) المجزأة والنظرة الفردية السائدة قد أدت إلى تجاهل أعمق للمفاهيم الكونية والتوازن. يرى الكاتب أن هذا التجاهل يؤدي إلى تفكك الهوية وضياع البوصلة الحضارية، مما يجعل المجتمعات أكثر عرضة للأزمات الداخلية والخارجية.
يستعرض الكتاب أيضا تأثير الوحدة الفكرية في الحضارة الإسلامية خلال فتراتها الذهبية. يوضح كالن كيف أن هذه الوحدة أسهمت في استقرار ونمو المجتمعات الإسلامية، بالرغم من التحديات الخارجية مثل الحملات الصليبية والغزو المغولي. يشير إلى أن الفقدان المؤقت لهذه الوحدة الفكرية كان له تأثيرات مدمرة أكبر من الهزائم العسكرية أو السياسية، ومع ذلك، تمكنت المجتمعات الإسلامية من التعافي بفضل قوتها الفكرية والمعنوية.
على الرغم من الغزو المغولي الذي أدى إلى نهب بغداد في عام 1258م وانهيار الدولة، فإن هذا الحدث لم يسفر عن ركود فكري أو اجتماعي. بل على العكس، اندمج المغول في الثقافة الإسلامية، وتم التعافي من الدمار السياسي والعسكري الذي خلفوه. وظهر في الفترة نفسها شخصيات بارزة في الفكر والعلم الإسلامي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مثل خوجة أحمد يسوي، ويونس إمرة، والسهروردي، وابن رشد، والقرطبي، وفخر الدين الرازي، وجلال الدين الرومي.
عندما يفقد مجتمع معين بوصلته الحضارية، يعاني أفراده من تشتت العقول وفقر القلوب. تتجه هذه الهويات المفككة إلى البحث عن مركز ثقل أو ملاذ آمن بطرق ملتوية، ولكن من دون جدوى. النظام الذي يخلقه عقل سليم، وعالم الروح والمعنويات الذي يغذيه قلب صحيح، والتصور الجمالي الذي يبنيه ذوق سليم، جميعها تبدو وكأنها قد فقدت. نجد أنفسنا في رحلة دائمة بحثا عن حلول لدى الآخرين في أماكن بعيدة، وتصبح صلتنا بجذورنا الحقيقية حلما بعيد المنال. نصبح عاجزين حتى عن مخاطبة أنفسنا.
رسالة كالن الأخيرة موجهة لكل الشعوب التي ضاعت قصتها والتي أصبحت هويتها فراغا يملؤه الآخرون (السوريون) وكأن الهويات أشياء لا تعرف إلا بأضدادها.