مقترح كيسنجر.. والجدل حول "عقلانية" بوتين

2022.05.30 | 03:54 دمشق

1-100-730x438.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن فولدمير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، موفقاً في اعتماد البعد الأخلاقي، في جانبٍ من ردّه على اقتراحات هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، بخصوص كيفية إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية. فالحديث عن عشرات الآلاف من الأوكرانيين الذين قُتلوا، والمدن المدمرة، ومعسكرات التصفية التي أقامتها الدولة الروسية، حيث يُعذب أوكرانيون، ويُهانون، وتُغتصب نساؤهن، وفق زيلينسكي، ليست الوصفة المثالية لتفنيد طروحات رائد المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية، منذ أكثر من 70 عاماً.

فـكيسنجر، الذي يبدو مسكوناً بهاجس الخشية من ثنائية قطبية، جامدة، قد تهدد بصراعٍ يخرج عن السيطرة، بين القوى الكبرى، هو من المروجين الأكثر بروزاً لما يُعرف بنظام توازن القوى المُؤسَّس بعيد سلام وستفاليا عام 1648، والذي يُعد، في نظر كيسنجر، منظومة مفاهيمية ما تزال تمسك بزمام صُنّاع القرار في السياسة الدولية، حتى الآن. وذاك "السلام الوستفالي"، جاء بوصفه استيعاباً للواقع، لا بوصفه تبصراً أخلاقياً فريداً، حسبما يقول كيسنجر في كتابه "النظام العالمي، تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ".

في مُؤلَّفِ كيسنجر المشار إليه آنفاً، يمكن لنا أن نقع على قراءات للرجل، تناقض إلى حدٍ ما، رهاناته الأخيرة على عقلانية صانع القرار بموسكو، فلاديمير بوتين

لكن، في الشطر الآخر، من رد زيلينسكي على كيسنجر، كان الأول موفقاً في اقتناص لحظة تاريخية، سجلت فيها "الواقعية" أبرز سقطاتها، لتذكير الأكاديمي التسعيني، بأن بعض وصفات "واقعيته" المُجرّبة، كانت مُرّة. فإشارة رئيس أوكرانيا إلى اتفاق ميونيخ عام 1938، بين رئيس وزراء بريطانيا حينئذ، نيفيل تشمبرلين، وبين الزعيم النازي الألماني، أدولف هتلر، كانت إصابة في الصميم. ذاك أن تشمبرلين، الذي كان مسكوناً بهاجس الخشية من حرب عالمية جديدة، في حينها -كما هو حال كيسنجر اليوم إلى حدٍ ما- وافق على منح هيتلر جانباً من أراضي تشيكوسلوفاكيا، لقاء وعدٍ من هتلر بترك باقي هذه الدولة، بسلام. وهو الوعد الذي أخلف به هتلر، بعد ستة أشهر من لقاء ميونخ، واجتاح كامل أراضي تشيكلوسلوفاكيا، عام 1939. وبذلك، يكون هتلر قد أثبت عدم عقلانيته، خلافاً لمعايير المدرسة الواقعية في السياسة الدولية.

في مُؤلَّفِ كيسنجر المشار إليه آنفاً، يمكن لنا أن نقع على قراءات للرجل، تناقض إلى حدٍ ما، رهاناته الأخيرة على عقلانية صانع القرار بموسكو، فلاديمير بوتين. ومن خلال تشريح موسّع لتاريخ روسيا، خلال خمسة قرون، وللإرث السيكولوجي الذي حكم عقلية صنّاع القرار في معظم مراحل ذاك التاريخ، يشير كيسنجر إلى أن روسيا كانت ترى نفسها دوماً محاصرة، وأنها لن تتحصّل على الأمن، إلا من خلال فرض إرادتها المطلقة على جيرانها. ولطالما كان "القيصر"، يُرى بوصفه عنواناً للدفاع عن روسيا، ضد أعداء محيطين بها من جميع الجهات. وعلى وقع هذا التوصيف، يتوارد تساؤل ملح على الأذهان: ألا نستطيع أن نرى ملامح هذا الإرث السيكولوجي، جليّة للغاية في سياسات وخطاب، فلاديمير بوتين؟ لا يجيبنا كيسنجر عن هذه الحيثية مطلقاً.

والأخطر مما سبق، هو إقرار كيسنجر ذاته، في مُؤلَّفِه المشار إليه أيضاً، بالنوازع التوسعية لروسيا، عبر تاريخها في القرون الخمسة الفائتة. فروسيا التي نعرفها اليوم، بدأت عام 1552، انطلاقاً من دوقية موسكو فقط. لتتوسع حتى العام 1917، لتصبح أكبر دول العالم مساحةً، قبل أن تتحول في زمن الاتحاد السوفييتي، إلى قطبٍ دولي موازٍ للولايات المتحدة الأميركية. ووفق توصيف كيسنجر، فإن روسيا دأبت على مدى القرون الخمسة الفائتة، على مدّ سيادتها ونفوذها في كل مرحلة، وصولاً إلى الحدود القصوى لمواردها المادية. ناهيك عن نزعتها للتصرف كقوة عظمى، عبر الإصرار على استعراض قوتها الردعية، كلما شعرت بفائضٍ من القوة.

رغم أن مقومات مقترح كيسنجر، مفهومة، وربما تلقى تجاوباً لدى بعض صنّاع القرار في الغرب ذاته، فإن تجربة اتفاق ميونيخ عام 1938، تبقى تلوح في الأفق

يختفي هذا الإرث السيكولوجي في معالجات كيسنجر للموقف من روسيا، منذ العام 2014، حينما ضمت شبه جزيرة القرم. ومن الممكن فهم ذلك. فالرجل الذي هندس الاتفاقية الصينية – الأميركية، قبل نصف قرن، والتي مثّلت تحولاً نوعياً في الحرب الباردة، ضد الاتحاد السوفييتي، يخشى اليوم أن تتلاشى آثار جهوده تلك، وأن تتقارب كل من روسيا والصين، إلى الدرجة التي تتيح خلق تحالف صلب بينهما. وهو ما قد يهدد بالتأسيس لنظام ثنائي القطبية، لا يتمتع بالمرونة التي تحظى بها التعددية القطبية الراهنة، مما قد يجعل من احتمالات الصدام بين القوى الكبرى، بصورة تخرج عن السيطرة، أمراً وارداً بالفعل. وهو السيناريو المرعب الذي فاقمت الحرب الروسية على أوكرانيا، من احتمالات تحققه. لذا، ولنزع فتيل تحول كهذا، يقترح كيسنجر أن تتحلى النخبة الأوكرانية في كييف، بما يكفي من "الواقعية"، للتخلي عن أجزاء من أراضيها، لوقف الحرب مع روسيا، قبل فوات الأوان.

ورغم أن مقومات مقترح كيسنجر، مفهومة، وربما تلقى تجاوباً لدى بعض صنّاع القرار في الغرب ذاته، فإن تجربة اتفاق ميونخ عام 1938، تبقى تلوح في الأفق. فما الذي يضمن أن يكون بوتين عقلانياً بالقدر الذي يتيح عدم تكرار غزوه لأوكرانيا أو لسواها، في حربٍ جديدة بعد بضع سنوات فقط؟ وهنا، يقفز هتلر إلى الواجهة. فالرجل الذي مهّد لأسوأ حرب في تاريخ البشرية، عبر المطالبات باسترداد أراضٍ من دول مجاورة، تسكنها جاليات ألمانية، يتقمص اليوم، "قيصر الكرملين"، في نظر كثير من المؤرخين، ويذكّر بأن استرضاء المُعتدي، يشجعه، ويشجع نظراءه، ويؤخر الصراع فقط، لكنه يجعل محصلته النهائية، أسوأ.