ذكرت في المقال السابق هنا قبل الانتخابات التركية بيومين وعقب انسحاب محرم إنجة من السباق الرئاسي أنه "إذا لم ينسحب سنان أوغان فهذا يعني أن جزءاً لا بأس به من أصوات إنجة قد يذهب إلى أوغان، ومع حصول هذا التشتت في الأصوات يكون من الصعب حسم الانتخابات من الجولة الأولى"، والآن تتجه تركيا نحو جولة إعادة للانتخابات الرئاسية في 28 أيار/مايو.
رغم أنني كنت أرجح الذهاب إلى جولة ثانية إلا أن اقتراب أردوغان بشكل كبير من حاجز 50% يوم الانتخابات خلق احتمالاً قوياً لإمكانية فوزه من أول جولة بفضل أصوات الخارج التي عادة ما يستحوذ على معظمها، وحتى آخر لحظة كان هناك احتمال لذلك، لكن النتيجة النهائية حسمت الأمر ودفعت لإعادة الانتخابات الرئاسية.
ما أبرز المفاجآت من انتخابات 14 أيار/مايو؟
كانت انتخابات صعبة والفروق فيها ضئيلة والتنافسُ محتدماً، أما النتائج فبعضها كان صادماً وبعضها الآخر تُستخلص منه دروس.
أولاً، نصف الأتراك يثقون بالنظام الرئاسي، ويثقون بتحالف الجمهور الذي يمثل هذا النظام، على الرغم من أن المعارضة كانت تؤكد على أن معظم الأتراك يريدون إعادة النظام البرلماني، إلا أن نتائج الانتخابات كان لها رأي آخر.
لقد نجح تحالف الجمهور مرة أخرى في الحصول على غالبية مقاعد البرلمان، مما يحقق له امتيازاً كبيراً في تمرير القرارات والتشريعات التي لا تتطلب موافقة ثلثي أعضاء المجلس، كما أن هذا الوضع سيكون عامل قوة بيد أردوغان في جولة الإعادة، وربما يعول عليه الرئيس التركي في إقناع الناخبين بضرورة التصويت له تجنباً للوقوع في أزمات بين الرئاسة والبرلمان.
ثانياً، حزب العدالة والتنمية الحاكم في خطر. النتيجة التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية كانت 35.6%، ما يعني أنه تراجع 5 نقاط عن انتخابات 2018، وبنحو 14 نقطة مقارنة بانتخابات 2015 وما قبلها من منافسات كانت تمكّنه من تشكيل الحكومة منفرداً من دون الحاجة للتحالف مع حزب آخر.
لقد فقد الحزب الحاكم 12 إلى 15% على الأقل من مناصريه، وهذا تراجع كبير يشير إلى أن الحزب بحاجة إلى إصلاح داخلي على مستوى التشكيلات والقيادات، وإيلاء الشباب أهمية أكبر، وخلق خطاب يستوعب مختلف الشرائح المستهدفة من الشعب التركي، كما كان عليه الحال من قبل.
نعم لا يزال العدالة والتنمية أكبر حزب إلى الآن، لكنه فقد حاجز 40% لأول منذ تأسيسه واستقر عند 35%، وإن لم يتدارك ذلك فمن الممكن أن يتراجع إلى 30% في الانتخابات المقبلة.
أعتقد أن الحزب بحاجة إلى التجديد وصعود وجوه جديدة فيه، وعدم التركيز على الخطاب الديني فقط، وبعث رسائل بأنه يستوعب الجميع، وخلق آلية محاسبة لعدم استغلال المناصب والتواصل بشكل أكبر مع الشارع والاستماع له وفهم أهم المشكلات التي جعلت نسبة كبيرة من المواطنين تحجم عن دعم العدالة والتنمية.
ثالثاً، الخاسر الأكبر هو حزب الشعب الجمهوري. في الحقيقة كنت أتوقع قبيل الانتخابات أن يكون الفارق ضئيلاً للغاية بين كليتشدار أوغلو مرشح الطاولة السداسية والأكراد، وبين أردوغان الذي يحكم البلاد منذ عقدين ولا يزال يتمتع بثقة كبيرة من نصف الشعب تقريباً.
نتائج الانتخابات الرئاسية أثبتت أن كليتشدار أوغلو فشل في جذب شرائح جديدة، حيث حصل على %44.9 فقط وهي أقل نظرياً مما حققه إنجة في 2018 حينما ترشح عن الشعب الجمهوري أمام أردوغان.
في 2018 حصل إنجة وحده على 30.6% ولو أضفنا إليه النسب التي حصل عليها آنذاك حلفاء الشعب الجمهوري اليوم، أكشنار دميرطاش ورئيس حزب السعادة، نجد أن المجموع 47.2%. ما أريد أن أقوله هو أن الأطراف المتحالفة اليوم لم تستطع الحصول على ما حصلت عليه متفرقة في 2018.
الخسارة الأكبر للشعب الجمهوري كانت في البرلمان، وهناك غضب داخلي كبير بسبب إدراج 4 أحزاب من الطاولة السداسية تحت قائمة الحزب، وهي أحزاب أثبتت أنها كتلة ضعيفة لا تتجاوز 2% مجتمعة، ومع ذلك حصلت على نحو 30 مقعد في البرلمان على حساب نواب الشعب الجمهوري.
نتيجة لذلك، أرى أن كليتشدار أوغلو خسر في السباق الرئاسي والبرلماني على حد سواء، وأضاف خسارتين جديدتين لسجله الحافل بالإخفاقات أمام أردوغان.
رابعاً، لا تستخفوا بالقوميين. لعل أهم درس يمكن استخلاصه من هذه الانتخابات هو كتلة القوميين المهمة. معظم استطلاعات الرأي كانت تمنح حزب الحركة القومية 6 أو 7% لكنه حصل على 10.1% متقدماً على حزب الجيد الذي تراجع عن انتخابات 2018 قليلاً.
بعيداً عن الحركة القومية، هناك سنان أوغان اليميني المتشدد، أثبت أن لديه كتلة لا بأس بها، مع حصوله على 5.2% من الأصوات، ومعظم الذين صوتوا له محسوبون على اليمين القومي، وهذا يعني أن استراتيجية كليتشدار أوغلو أقيمت على خطأ أوحى له بأن التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي اليساري الكردي والذي يدعم تنظيم PKK سياسياً سيجلب له الفوز، لكن القوميين أثبتوا له عكس ذلك.
مصير جولة الإعادة
على بعد أقل من أسبوعين، سيتوجه الأتراك من جديد لصناديق الاقتراع لاختيار واحد من مرشحين اثنين في الانتخابات الرئاسية، إما أردوغان أو كليتشدار أوغلو.
المؤشرات منطقياً وحسابياً تقول إن أردوغان صاحب الحظوظ الأوفر، فنسبته 49.5% وهي قريبة جداً من نسبة الحسم، أما منافسه الأقرب كليتشدار أوغلو فلم يصل حتى إلى 45% واستقر عند 44.9%، والفارق بينهما كبير نسبياً وعددياً، ولذلك فإن حظوظ أردوغان في كسب أصوات بنسبة 0.5% أسهل مقارنة بكليتشدار أوغلو الذي يحتاج إلى أصوات أكثر من 5%.
كلا المرشحين سيتنافس على كتلة 5.2% التي استحوذ عليها سنان أوغان، والذي يقول إنه سيدرس الخيارات لإعلان قراره حول المرشح الذي سيدعمه في جولة الإعادة، وأعتقد أن تحالف المعارضة سيركز بشكل كبير على جذب أوغان إليه وعقد مناقشات ومفاوضات طويلة معه.
لكنني أعتقد أن هناك تضخيما مبالغا فيه لموضوع أوغان، فمنهم من يصف بصانع الملوك ومنهم من يصفه بالحصان، نعم الرجل حصل على نسبة جيدة وغير متوقعة، لكن هناك أمور مهمة يجب أن ننظر لها أيضاً؛ فجزء كبير من أصوات محرم إنجة ذهبت إلى أوغان، وجزء جيد أيضاً من داعمي تحالف الطاولة السداسية صوّتوا لأوغان من دون كليتشدار أوغلو بسبب علاقة الأخير مع الشعوب الديمقراطي.
إضافة لذلك أيضاً، ليس هناك معالم واضحة لكتلة أوغان، فهي ليست منظمة وليس لديها تشكيلات حزبية مثلاً، ولو نظرنا إلى حزب النصر الذي رشح أوغان للرئاسة، نجد أنه لم يحصل سوى على 2.2%، ما يعني أن 3% صوّتوا لأوغان من خارج تحالف الأجداد الذي رشحه للانتخابات الرئاسية.
حتى حزب البلد الذي أسسه محرم إنجة، لم يحصل سوى على 0.9%، ولنفترض أن جميعهم صوّت لأوغان فهناك أيضاً 2% يُعتقد أنهم جاؤوا من أحزاب الطاولة السداسية.
وهذا يشير إلى أن 5.2% من المعارضة لا تثق بكليتشدار أوغلو، وجزء كبير منهم مستعد للتصويت لأردوغان من دون منافسه، لأسباب عدة منها يتعلق بالعلاقة مع الشعوب الديمقراطي، ومنها يعود لنظام التحالف الغريب الذي يجعل لرئيس الجمهورية 7 نائبين، ويعزو مخاوف الأتراك من الأزمات في ظل قيادة ائتلافية غير مضمونة.
في المقابل، لا أعتقد أن أردوغان سيمنح أوغان وزناً ثقيلاً، لكن بالتأكيد ستجري بعض النقاشات والتفاهمات، وغالباً ستكون من خلال حزب الحركة القومية اليميني الحليف الأكبر للحزب الحاكم، ولا سيما أن أوغان كان نائباً فيه قبل أن يُطرد منه في 2016.
أخيراً، أجدد اعتقادي بأن فرص فوز أردوغان أكبر، وأن نسبة كبيرة ممن صوتوا لأوغان لا يمكنهم التصويت لكليتشدار أوغلو، وقد يمتنعون عن التصويت أو يصوتون لأردوغان في جولة الإعادة. لكن فوز أردوغان بالطبع يشترط حفاظه على نسبة 49.5% التي خرج بها من انتخابات 14 مايو/أيار، ونظراً إلى أن هذه النسبة مثّلت تحالف الجمهور في البرلمان، فهذا يعني أنها كتلة صلبة ستصوت لأردوغان في جولة الإعادة بالتأكيد.