عندما شكوت للدكتور برهان غليون شعورنا كنشطاء أن علينا فهم العالم بأكمله حتى نفهم ما حصل في الربيع العربي، وأن هذه مهمة فكرية شاقّة لا قِبل لعقولنا المنهكة بها، نصحني الرجل بأن أقرأ كتابه الجديد. لم أتأخر!
اشتريت كتاب (سؤال المصير) خلال دقيقة عبر متجر أمازون ونزل الكتاب على شكل ملف إلكتروني في جهاز القارئ (كندل) الذي لديّ. ثم لم ينته النهار إلا وفرغت منه. فالكتاب ليس أكثر من مئتي صفحة لكنه يوازي في أهميته ما كتبه برهان غليون طيلة حياته. والسبب برأيي أن غليون بات يتحلّى بشجاعةٍ فكرية أكبر وهو على أبواب الثمانين. فهو اليوم متقاعدٌ وليس هناك من منصبٍ ليخسره ولا وظيفةٍ ليطرد منها، ولا حتى رئاسة ائتلافِ معارضةٍ فاشل يُقصى عنها.
وهكذا أراد غليون لـ (سؤال المصير) أن يكون "آخر الكتب" على ما يبدو وهو بمثابة وصية أخيرة للعرب وللسوريين تحديداً من رجلٍ طالما نزل منزلةً كبيرة في قلوب غالبيتهم.
الدولة "الحديثة" في الشرق لم تكن أكثر من "هدية مسمومة" من قبل الغرب الذي عمل بدأبٍ كي يترك السيطرة في منطقتنا في أيدي نخبٍ فاسدة وعميلة مرتبطة به وتعمل من أجل مصالحه بعد رحيله
الدرس الأساسي في كتاب غليون هو أن علينا التوقف فوراً عن التنقيب في عقدنا التاريخية المزعومة أثناء رحلة البحث عن موطن الخلل، فالقضية ليست قضية دينٍ متخلّف نؤمن به، ولا تراثٍ رجعي نتمسك فيه.
في الفترة التي تحرّرت فيها شعوبنا من الاستعمار وبنت دولها الحديثة على النمط الغربي، استمر التدخل المؤذي للغرب في تلك الدول. فالدولة "الحديثة" في الشرق لم تكن أكثر من "هدية مسمومة" من قبل الغرب الذي عمل بدأبٍ كي يترك السيطرة في منطقتنا في أيدي نخبٍ فاسدة وعميلة مرتبطة به وتعمل من أجل مصالحه بعد رحيله. وهكذا بقيت دولنا "الحديثة" عاجزة عن إنتاج المواطنة وبناء الوطن. ومن هذا المنظور بإمكاننا فك شيفرة نظام الأسد وتفسير قيام فرنسا وبريطانيا وأميركا وحتى إسرائيل في دعم بقائه في الحكم على جماجم السوريين. فالأسد بصواريخه وأسلحة الإبادة التي استعملها ضد الشعب السوري ليس سوى الابن الشرعي لـ "لحداثة" الغربية، أو لنصيبنا الذي جاد به الغرب علينا من هذه الحداثة.
لقد ولدت الدولة العربية الحديثة "كسيحةً" ونشأت نشأةً متعثرةً وكانت بنخبها الفاسدة مجرد امتدادٍ لعهد الاستعمار الغربي. بالمقابل، لم نر نحن من مباهج الحداثة سوى انفراد الغرب بالثروة والعقلانية والديمقراطية والمؤسسات، بينما تُركنا في خلوٍ من ذلك كله. بل إن الغرب قعد يترصد بنا ويحاربنا - بالتشارك مع أنظمتنا - كلما حاولنا الفوز بشيءٍ من ذلك. وهو ما حصل خلال الربيع العربي والثورة السورية. وهكذا فأصل تخلفنا اليوم "قائم في الوجود، أي في الواقع المادي، وليس في الماهية -العربية الإسلامية- وفي الحاضر لا في الماضي" وهو حاصل صدامنا مع الغرب الغازي وليس ينبع لا من تراثنا، ولا من ديننا، ولا من حضارتنا.
لقد حان الوقت إذاً للتوقف عن دفن رؤوسنا في رمال التراث والتأهب لخوض المعركة الحقيقية، وهي المعركة التاريخية من أجل الحداثة الحقيقية. إنها معركة من أجل الوقوف بندّيةٍ مع الغرب عن طريق المضي في طريق التقدم والازدهار، واكتساب المعرفة، وتنمية المواهب، وتربية الأفراد ليكونوا مواطنين، والاستثمار في الابتكار والاختراع، والتخلص من مشاعر الدونية والسلبية، والكفّ عن لعب دور الضحية.
ويقدم غليون في كتابه رؤيته الخاصة للديناميكيا التي يمكن أن تتحرك من خلالها عملية تنوير العالم العربي والإسلامي، وهي عملية يراها سياسية وليست دينية. ويعطينا مفكرنا السوري مثالاً حيّاً مما يحصل من ثورة تحديثية اليوم في السعودية على يد الأمير محمد بن سلمان. فالفقهاء الوهابيون الذين اشتهروا بشدة سطوتهم "لم يجرؤوا حتى على التعبير عن احتجاجهم" بينما انخرط الجمهور عن حماسٍ واندفاع في المشروع التحديثي الجديد.
المطلوب إذاً هو ترك الانشغال بمناطحة الدين ومبارزة التراث، والتركيز على لبّ الموضوع وهو العمل على تغيير الواقع عن طريق السياسة
وهكذا فالسلطة السياسية هي مركز السيادة وليس رجال الدين ولا التراث الديني الرجعي. وهو ما تثبته جراءة الأمير السعودي الشاب على الإصلاح غير هيّابٍ ولا متردد. والنتيجة الأهم التي يستخلصها الدكتور غليون من التجربة السعودية أن "الإيمان الديني، حتى عندما يكون لا عقلانياً... لا يمكن أن يحول دون التقدم في مشروع الحداثة إذا وجدت الإرادة السياسية عند رجل السلطة". ويحمل غليون على المثقفين الذين يستخدمون التخلف الديني للتبرير للحكام المستبدين في الشرق وتعزيز حملات الإسلاموفوبيا في الغرب، ويقرّ من دون مواربة بأن الاعتقاد بوجود "جوهر فكري أو روحي صلب (عند الناس).. يحول دون استيعابهم للجديد الطارئ، هو اعتقاد خرافي لا علاقة له بأي معرفة علمية". فالمطلوب إذاً هو ترك الانشغال بمناطحة الدين ومبارزة التراث، والتركيز على لبّ الموضوع وهو العمل على تغيير الواقع عن طريق السياسة. فالدين غالباً ما يساير تغير الأحوال من حوله ويخضع أثناء عملية التحديث المجتمعي - التي قد تأتي لتقوم بها سلطات متنوّرة - إلى عمليات تفسير وتأويل وتحريف وانتحال، بل وإهمال لبعض عناصره. وهذا هو السر في بقاء الإيمان، ومقدرة الدين على مقاومة الفناء مهما كانت موجات التحديث عاتية.
ويمضي الدكتور غليون ليقول أشياء أخرى كثيرة في غاية الأهمية وجدتني أتفق معه بخصوص معظمها بدرجاتٍ متفاوتة. والذي وجدتني أعارضه في الكتاب كان من القليل الذي لا يُلقى له بال. غير أن الكتاب سكت عن أشياء مهمة ليس لي حيلة في لوم الدكتور غليون عليها. فالإنسان له فيما يقول ويفعل غايةٌ يقف عندها، ولكلٍّ أسبابه. وحسب الدكتور غليون ما كتب، ففيه الكثير.
في الفترة التي التقيت فيها بالدكتور غليون في باريس التقيت برجل دينٍ سوري معارض يقدم نفسه بأنه مفكر تنويري. يرى هذا المفكر التنويري أن هناك "ديناً موازياً" في "الشرق البائس" كما يصف بلادنا، وهو غير الدين الحنيف الذي جاء به محمد. وينظر مفكرنا إلى داعش على أنها خصيصة قارّة في داخل كل واحدٍ منا كجنيّة تتلبسنا وتمنعنا من الحركة والتطور، وعليه فقد قرر مفكرنا التنويري أن يتجشّم عناء قراءة النصوص المقدسة بشكلٍ مغاير حتى يُخرج الجنيّة الداعشية من أجسامنا، فتنجح مساعينا في إسقاط النظام وبناء سوريا التي نحلم بها. وهكذا فأنت ترى إذاً أيها القارئ الكريم لماذا أخذتُ نفساً عميقاً جداً بعد قراءة كتاب (سؤال المصير) للدكتور برهان غليون وشكرت الله أنه وهب السوريين - مقابل أمثال صاحبنا التنويري - مفكراً بهذا الحجم في هذه المرحلة الحساسة من حياة بلدهم. كما حمدت الله بالمقابل - ومن باب الإيمان والتسليم - على خلقه للإخوان المسلمين وتوابعهم من أدعياء الاعتدال والتنوير. فالله تعالى لا يُحمدُ على مكروهٍ سواه.