دخل الثوار مدينة حلب في النصف الثاني من شهر تموز من عام 2012، وعلى مدار الأشهر التالية خرج ما يقارب ثلثي المدينة من سيطرة نظام الأسد إلى سيطرة الثوار فيما بات يعرف بالقسم المحرر، بينما بقيَت أحياء المدينة الأكثر ثراء تحت سيطرة نظام الأسد، وتشكل بين القسمين عدد من نقاط العبور، كان يقطعها الأهالي الراغبون بالتنقل بينهما، ثم ما لبثَت أن انتظمَت حال نقاط العبور تلك بعد أنْ تشكّلَت خطوط الجبهات بين القسمين، لتقتصر على نقطة واحدة يعبرها الناس من حي المشارقة الخاضع لسيطرة نظام الأسد إلى حي بستان القصر في المنطقة المحررة وبالعكس، فيما عرف باسم "معبر بستان القصر".
بالنسبة لكثير من أهالي المدينة جاء دخول الثوار إليها مفاجئاً، كما كان مفاجئاً أيضاً السرعة التي انتقل فيها النظام إلى قصف الأحياء المحررة بالمدفعية وقذائف الهاون، مما دفع غالبية قاطني المنطقة المحررة لمغادرتها في الأسابيع الأولى للتحرير.
استقرار المنطقة المحررة
في الأشهر الأولى للتحرير عاشت المنطقة المحررة في مدينة حلب أزمة خانقة بسبب توقّف أفرانها عن العمل، مع انقطاع مادتي الطحين والمحروقات عنها، تاركين قاطنيها في حالة يرثى لها من الزحام على الأفران القليلة العاملة فيها لتأمين الخبز، ولم يلبث الأمر طويلاً حتى تمكنَت "هيئة الشباب المسلم" بالتنسيق مع عدد من فصائل الثوار العسكرية في المدينة، من تنظيم دورة عمل كاملة للخبز، تبدأ من استلام الحبوب من الصوامع الكبيرة في ريف الرقة، وحتى تشغيل عدد من المطاحن في أرياف المدينة، وصولاً إلى توزيع الطحين والمحروقات على أفران الخبز بأسعار مدعومة، والرقابة على عمل الأفران، حتى توفر الخبز للمدنيين بكميات كبيرة وأسعار قليلة مقارنة معها في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
اقرأ أيضاً: "أزمة الخبز في حلب 2012"
ساهمَت إعادة توفُّر المواد الأساسية في المنطقة المحررة، بعد توافر الخبز والمواد الغذائية الأخرى التي عادَت للتوافد إليها من أرياف المدينة المحررة، في عودة الحياة إلى الأحياء المحررة حديثاً بعد أن رجع قاطنوها الذين نزحوا عنها سابقاً إليها.
خاصة بعد الحالة التنظيميّة التي فرضها الثوار في المناطق التي يسيطرون عليها، بداية من تأسيس مجلس القضاء الموحد، ومن ثم تأسيس (الهيئة الشرعية) بجهود كبرى فصائل المدينة العسكرية التي انضمَّت إليها تباعاً، في شكل أقرب إلى حكومة محلية، عملَت على ملفات القضاء والخدمات بشكل أساسي، مساهمة إلى حد بعيد في ضبط التجاوزات التي حدثت في الأيام الأولى للتحرير، وتشكيل نوع من السلطة الضرورية لأي تجمع سكاني.
إضافة إلى حالة التهدئة في العمليات العسكرية التي كان يشنها الثوار باتجاه الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام والواقعة بين الأحياء المحررة، وتوجه أنظارهم إلى مناطق وأحياء طرفية مثل حي "الشيخ سعيد" الذي انطلقَت معركة تحريره مع تأسيس (تجمع فاستقم كما أمرت) أواخر كانون الأول من عام 2012، و"اللواء 80" الذي بدأَت معاركه في الفترة نفسها، وهو ما حول قذائف مدفعية نظام الأسد من استهداف جل الأحياء المحررة إلى مناطق العمليات على الأطراف، سامحة بنوع من حالة الاستقرار فيها.
لتنتعش المدينة التي اكتسبَت شهرتها بكونها عاصمة البلاد الاقتصادية، ويصبح آلاف المدنيين من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام يعبرون المعابر القليلة بين القسمين إلى الأحياء المحررة كل يوم لتأمين حاجيّاتهم الأساسية، وتستعيد المدينة شيئاً من دورها كمركز تجاري للشمال السوري، حيث بدأ قاطنو الأرياف المحررة يتوافدون إلى أسواقها المختلفة، حتى أنني كنتُ أحتاج ساعة كاملة لعبور عقدة مواصلات "دوار الحلوانية" بين حيَّي الشعار وطريق الباب، بسبب الازدحام المروري الشديد.
معبر الموت
بدأت الأحوال الاقتصادية للقسم الخاضع لسيطرة نظام الأسد في مدينة حلب بالتدهور، مع تحول الأحياء المحررة إلى وجهة أهالي ريف المدينة وبضائعهم التي شملَت الخضار والمواد الغذائية المختلفة، ومع قطع الثوار نارياً لطريق حلب \ دمشق الذي كان يعتبر الطريق الوحيد إلى مناطق النظام في المدينة على فترات متقطعة، لتشح المواد الغذائية في أسواقها، ويصبح المدنيون فيها يعتمدون بشكل رئيسي على الأحياء المحررة في كل حاجياتهم.
وهو ما جعل الحركة على المعابر القليلة بين القسمين التي بدأ الثوار وقوات النظام يغلقونها تدريجياً لدواعٍ أمنية، حتى اقتصرت على معبر بستان القصر في بدايات عام 2013، تتزايد بشكل كبير جداً.
يقع المعبر بين حيّ بستان القصر المحرر، وحيّ المشارقة الخاضع لسيطرة قوات نظام الأسد، في الطريق من "كراج الحجز" في بستان القصر، عبر الشارع العريض بين الحيَّيْن إلى المشارقة، والذي تشرف عليه بشكل مباشر مباني حي المشارقة، إضافة إلى مبنيين كانت تتخذهما قوات نظام الأسد أبراج قنص، هما مبنى القصر البلدي ومبنى الإذاعة.
شكّل معبر بستان القصر حالة منفعة مشتركة للمدنيين في قسمي المدينة، فكانوا يعبرونه من قسم المدينة المحرر إلى الأحياء المحتلة، لشراء الإلكترونيات وبعض المواد الطبية التي كانت أسواقها الرئيسية تقع في تلك الأحياء، إضافة إلى الموظفين في الدوائر الحكومية التي أعاد النظام افتتاحها في الأحياء الخاضعة لسيطرته، وطلاب جامعة حلب التي تقع مبانيها في تلك الأحياء، بينما كان المدنيون من القسم المحتل يعبرونه باتجاه الأحياء المحررة طلباً للمواد الغذائية الأساسية، التي فُقِدَت في القسم المحتل أو تضاعفت أسعارها بشكل كبير، وبات شائعاً منظر توافدهم جموعاً إلى القسم المحرر صباحاً يحملون أموالهم، ثم عودتهم إلى القسم المحتل يحملون الخضار والفواكه والبيض ومختلف المنتجات الغذائية ظهراً، حتى وصل عدد من يمرّون من المعبر إلى 6000 شخص في الساعة الواحدة، وهو ما دفع الهيئة الشرعية لاستلام إدارة المعبر بعد أنْ كانت الفصائل العسكرية هي المسؤولة عنه.
وتم إنشاء عدد من المكاتب وغرف التفتيش على المعبر، لمنع دخول عناصر مرتبطة بالنظام إلى المناطق المحررة، ولتطبيق قرارات الهيئة الشرعية التي منعَت إخراج المواد الغذائية من المناطق المحررة بكميات كبيرة، مُحدِّدَة الكميات من كل مادة للشخص الواحد، وفارضةً بعض الرسوم على إخراج المواد الغذائية للتجار.
ورغم أنّ عدداً من التجاوزات ظهرَت من بعض موظفي الهيئة الشرعية، إلا أنّ أشد ما عاناه المدنيون على المعبر كان رصاص قناصي النظام الذين كان يحلو لهم يومياً استهداف جموع المدنيين الذين يقطعون المعبر للتسلية لا أكثر! حتى اقتصر ضحايا القنص في أحد الأيام الدامية في المعبر على النساء الحوامل برصاصة في البطن فقط!
لأسباب متعددة وبعد عدد من المجازر على المعبر أصدرَت الهيئة الشرعية في أواخر عام 2013 قرارها بإغلاق المعبر، حيث تزامن القرار مع قطع طريق إمداد القسم الخاضع لسيطرة النظام من المدينة من قبل الثوار، لتصبح الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام تعيش للمرة الأولى حالة حصار حقيقي لا تتوافر فيه المواد الغذائية، وهو ما دفع الناشطين الثوريين في القسم المحرر للتظاهر بغضب أمام المعبر حتى تراجعَت الهيئة الشرعية عن قرارها، وعاد دخول المواد الغذائية إلى القسم المحتل من المدينة.
لاحقاً تمكن نظام الأسد من تأمين طريق دخول آخر للمواد الغذائية إلى القسم المحتل، وأُغلِق معبر بستان القصر نهائياً في نيسان من عام 2014، وشاءت الأقدار أن تعيش الأحياء المحررة حصاراً خانقاً بعد تمكن قوات الأسد من السيطرة على طريق إمدادها الوحيد "الكاستيلو" أواخر تموز من عام 2016..
لكن هذه المرة لم يتظاهر أحد لفتح طريق لدخول المواد الغذائية لعشرات آلاف المدنيين المحاصرين، بل تفنّن إعلام نظام الأسد بتصوير "فرحة أهالي حلب" باقتراب "تطهير" الأحياء المحررة..
لكن تلك قصة أخرى.