"إن تكن تلكَ هي الدنيا، فأينَ الآخرة؟" كان هذا الشطر الأخير في قصيدةٍ للشاعر العراقي، أحمد مطر، بعنوان: (بوّابة المُغادرين)، يتحدثُ فيها بلسان مَلَكٍ كان يجلس على أبواب السماء ليُسجّل فيها أسماء القادمين إليها من الأرض "طالباً من كُلِّ آتٍ نُبذةً مُختصرة، عن أراضيه وعمّن أحضَره"، ويشرح فيها مظاهرَ للحياة البشرية المُعاصرة تُذكِّرُ المرء، على الأقل، بما يشيع الحديث عنه في ثقافتنا من أهوال يوم القيامة.
أميركا الحرائق والأعاصير والفقر والعطالة
على مدى أسابيع، تشهد ولايات الساحل الغربي لأميركا حرائق لم يسبق لها مثيلٌ في العقود الماضية. فعلى امتداد أربع ولاياتٍ تُشكل سُدس مساحة هذا البلد القارة، كاليفورنيا ونيفادا وأوريغون وواشنطن، تنتشر حرائق ضخمة التهمت، حتى الآن، أكثر من 20 ألف كم2 بما يتجاوز حجم ولايةٍ كاملة مثل نيوجيرسي في شرق البلاد. وذلك بخسائر تُقدرُ، حتى الآن بأكثر من 2 مليار دولار، مع تدمير أكثر من 7000 مبنى ومنزل ومُنشأة، ووفاة أكثر من 50 شخصاً. هذا غير حجم التلوث البيئي الهائل، حيث وصلَت غمامة الدخان منها إلى أوروبا حسب مجلة (فوربس) البريطانية ومصادر أخرى، فضلاً عن تأكيد الخبراء بأن التنفس في تلك الأجواء بات يساوي تدخين 20 علبة سجائر يومياً.
وفي جنوب أميركا، يجتاح إعصار (سالي) ولايات فلوريدا وميسيسبي وآلاباما وكارولاينا الجنوبية، مع كتابة هذه الكلمات، مُسبباً فيضانات هائلة بدأ مراسلو قنوات التلفزة يُظهرون كيف أنها أصبحت سيولاً في شوارع المدن، وذلك بعد ساعات معدودة فقط من وصول الإعصار إلى اليابسة، في حين تُقدر وكالة الأرصاد الجوية الأميركية أن تأثيره سيستمر لأكثر من 24 ساعة قادمة.
يُضاف إلى تلك الظواهر تصاعد شراسة فيروس كورونا المُستجد، حيث يقترب عدد المُصابين به من 7 ملايين شخص، بمعنى أن الولايات المتحدة التي تمثل 4٪ من سُكان العالم تتجاوز فيها نسبة المصابين بالوباء رقم 25٪ من عديد البشرية. أما فيما يتعلق بالوفيات، فإن الرقم يقترب بشكلٍ مخيف من العلامة الفارقة التي تبلغ 200 ألف وفاة، المُتوقع الوصول إليها خلال الأيام القليلة القادمة، وبمعدل وفاة يومي ثابت يقارب 1000 أميركي.
قد يتساءل القارئ: ماعلاقة الانتخابات، والرئيس دونالد ترامب تحديداً، بالظواهر المذكورة التي يمكن وصفُها بأنها (طبيعية)؟
قد يتساءل القارئ: ماعلاقة الانتخابات، والرئيس دونالد ترامب تحديداً، بالظواهر المذكورة التي يمكن وصفُها بأنها (طبيعية)؟
العلاقة وثيقةٌ جداً. وتتمثل بشكلٍ رئيس في سوء الإدارة والتخطيط على أكبر المستويات من جهة، وفي الإصرار على إنكار مُعطيات العلم فيما يتعلق بأزمة المناخ العالمي التي يؤكد الخبراء والمُختصون، في أميركا والعالم، أنها من الأسباب الأساسية وراء الحرائق والأعاصير والفيضانات المذكورة. تؤكدُ هذا، على سبيل المثال، إدارة المناخ في وكالة (ناسا) الفضائية الأميركية (الحكومية)، بأرقام وتفاصيل منشورة في موقعها على شبكة الإنترنت، كما يؤكد تابيو شنايدر / Tapio Schneider، أحد أشهر علماء المناخ في أميركا والأستاذ في جامعة (كالتيك / Caltech) العريقة، أن 97٪ من العلماء في العالم يُجمعون على أن أزمة المناخ هي صناعةٌ بشرية.
مقابل هذه الحقائق، يستمر الرئيس ترامب في إنكار وجود مشكلة مناخ أصلاً، بل ويُشككُ في أن أي حديثٍ عنها هو مجرد (مؤامرة)، يصمُ كل مَن يقول بها بأنهم حفنةٌ من اليساريين. وعملياً، بعد تجاهل الحرائق المذكورة لأسابيع، قام ترامب الإثنين الفائت بزيارة ولاية كاليفورنيا التي تشهد أضخم الحرائق وأكثرها عدداً. وعندما التقى مع حاكم الولاية الديمقراطي، غيفن نيوسُم / Gavin Newsom، ومساعديه، شهدَ الأميركان على الهواء مباشرةً درجة الخلاف بين الرجلين فيما يتعلق بأسباب تلك الحرائق. ففي حين ركز الحاكم ومساعدوه على أهمية أخذ المُعطيات العلمية بعين الاعتبار، وبأن الولاية تشهد جفافاً غير مسبوق، خالفهم ترامب الرأي بشكلٍ كبير موضحاً أنه لا يكترث كثيراً بما (يدّعيهِ) العلم، مع القول، بسُخريةً ظاهرة: "سترون كيف ستبرد الأجواء"، والتأكيد في نهاية المطاف على أن المشكلة تنبع في الحقيقة من سوء إدارة الغابات، بغرض إلقاء التَبِعة على الحاكم الديمقراطي.
المفارقةُ طبعاً، وهي واحدةٌ من مئات المفارقات التي لا يهتم بها، والأغلب ألا يعرفها ترامب، وهو يمارس الكذب بشكلٍ مستمر، أن إدارة الغابات هي في جزءٍ كبيرٍ منها مسؤولية فدرالية، أي مسؤولية حكومته، أكثر منها مسؤولية الولايات.
والحقيقة أن المرء العادي في أميركا يكاد يشعرُ، عملياً، بأن المناخ مُصابٌ بنوعٍ من الجنون. ففي نفس الوقت الذي ترتفع فيه الحرارة بشكلٍ قياسي في غرب أميركا هذه الأيام، تمتلئ السماء في جنوبها بالغيوم والأمطار، في حين تهبطُ درجات الحرارة بشكلٍ كبير في ولايات الغرب الأوسط، بينما يشهد الساحل الشرقي أجواء معتدلة.
لكن الأمر يتجاوزُ سوء الإدارة ومُخالفة العلم حين يتعلق الأمر بوباء كورونا ومكافحته في أميركا. ففي حين يؤكد الديمقراطيون، وفي مقدمتهم مرشحهم للرئاسة جو بايدن وحملته الانتخابية، على أن الوباء كارثةٌ وطنية، وأنه كان بالإمكان التعامل معه بشكلٍ أفضل بكثير لولا سياسات ترامب، وأن أميركا ستبقى تعاني منه ومن تَبعاته الاقتصادية والاجتماعية لزمنٍ طويل، يرفض الرئيس تماماً تلك المقولات، بدعوى أن الوباء هو مجرد نوعٍ من أنواع الأنفلونزا، وبأن الحديث عنه هو (مؤامرةٌ) دبّرَها الديمقراطيون، وبأنه سيختفي بشكلٍ "سحري" دون الحاجة إلى القلق منه.
ويتضح حجم الآثار السلبية الناتجة عن الوباء المذكور حين نعرف مثلاً، حسب أرقام وزارة العمل الأميركية منذ أسبوع، أن قرابة900 ألف أميركي إضافي فقدوا عملهم خلال الأسبوع قبل الماضي، مما رفع جملة العاطلين عن العمل إلى قرابة30 مليون أميركي يعيشون على الإعانة الحكومية الضئيلة، وهناك 5,4 مليون أميركي لايستطيعون دفع إيجار بيوتهم ويواجهون خطر طردهم من بيوتهم، أما نسبة الفاقة في البلاد فقد وصلت إلى 10٪، كما ذكرَ 10٪ أيضاً من البالغين الأميركان أنه ليس لديهم الكفاية لطعامهم اليومي، ومرةً ثانية، كل هذا حسب أرقام وزارة العمل، وهي أرقامٌ تبلغ نسبة 20 ضعفا مما كانت عليه العام الماضي فقط.
من الصعب أن يتصور المرء أن هذه الأرقام تتحدث عن أغنى وأكبر وأقوى بلدٍ في العالم. وربما يظهر حجم الوحشية الكامنة في النظام الاقتصادي حين نعلم أن حملة الأسهم في البورصة الأميركية كسبوا عشرات المليارات من الدولارات خلال أشهر الأزمة الماضية
من الصعب أن يتصور المرء أن هذه الأرقام تتحدث عن أغنى وأكبر وأقوى بلدٍ في العالم. وربما يظهر حجم الوحشية الكامنة في النظام الاقتصادي حين نعلم أن حملة الأسهم في البورصة الأميركية كسبوا عشرات المليارات من الدولارات خلال أشهر الأزمة الماضية، وهو ما يركز عليه ترامب مُدعياً أن الاقتصاد الأميركي يتعافى بسرعةٍ وقوة، في حين تشرح الغالبية العظمى من المحللين حقيقة أن سوق الأسهم مُنفصلٌ كلياً عن الواقع وأنه لا يُعبر أبداً عن حقيقة المأساة الراهنة في أميركا.
أما مآزق النظام السياسي، فتظهر حين نعرف أن حجم القتلى من وباء كورونا كل 4 – 3 أيام، وعلى مدى شهور، يتجاوز عدد قتلى هجمات سبتمبر التي استنفر النظام السياسي في أميركا كل جبروته السياسي والعسكري والأمني لـ (الانتقام له) بشكلٍ أثار الفوضى والكوارث في العالم بأسرهِ، وبشكلٍ غيّر تاريخ البشرية. وإذ يتذكرُ بعض الإعلاميين والمراقبين هذه المفارقة، ويُذكّرون الأميركان بها، بين حينٍ وآخر، إلا أنها تبقى مثالاً بشعاً على النفاق حين يتعلق الأمر بحياة الإنسان بعيداً عن الحسابات السياسية والمصالح الاقتصادية.
لكن ما تعاني منه حملة ترامب الآن يتمثل في أن أميركا لا تزال تعيش مع أصداء كتاب الصحافي، بوب ودورد، الذي تحدثنا عنه في المقال السابق. إذ نزل الكتاب إلى الأسواق رسمياً الثلاثاء الماضي، وعلى سبيل التسويق، لا يزال الرجل يُسرّبُ كل يومين بضع دقائق من جملة المقابلات التي أجراها مع ترامب على مدى 7 شهور، ويبلغ وقتها 9 ساعات صوتية، تضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بسياسات الرئيس وآرائه. ويَظهر منها بشكلٍ بارز وحساس قيامه بالكذب على الشعب الأميركي بخصوص الوباء، في حين كان يشرح بالتفصيل للصحافي خلال اللقاءات، ومنذ شهر كانون الثاني الفائت مدى خطورته، إلى درجة أن مستشار الأمن القومي أكدَ له يوم 28 من ذلك الشهر أن هذا (الوباء) سيكون بمثابة أخطر أزمةٍ يواجهها خلال رئاسته تُهدد أمن البلاد واقتصادها.
فوق هذا، تَظهر عنصرية ترامب تجاه الأقليات، وازدراؤه للجنود وقادة الجيش الأميركان، وطبيعة علاقاته الغريبة مع رئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، الذي تبادل معه 28 رسالة وصفها الرئيس الأميركي، بالحرف، للصحافي بأنها "رسائل حب"! هذا فضلاً عن طبيعة علاقته مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الذي طلب منه في مكالمةٍ هاتفية بداية العام عدم (المبالغة) في الحديث عن وباء كورونا بشكلٍ علني "لكيلا يُثير الذعر بين الجماهير"، وهو الأمر الذي فعله الرئيس الأميركي طوال الشهور الماضية.
وقد تأكدت من التسريبات المذكورة الفكرة التي تُحلل شخصية الرئيس الأميركي ونقاط ضعفه حين يتعلق الأمر بالرجال الأقوياء، وبقدرة هؤلاء، خاصةً من قادة الدول الأخرى، على التلاعب به وبعواطفه، وبالتالي في آرائه وقراراته وسياساته، من خلال كيل المديح له والإعجاب به، وإرضاء الجانب النرجسي الواضح في شخصيته.
قلق الديمقراطيين من صرخة الرجل الأبيض الأخيرة
بسبب كل ما سبق ذكره، يبدو طبيعياً أن المرشح الديمقراطي لا يزال يسبق ترامب في استطلاعات الرأي على المستوى القومي، وبنسبةٍ تتراوح بين 7 – 10 نقاط، كما أنه لا يزال متقدماً عليه في أغلب الولايات المتأرجحة. رغم هذا، يعيش الديمقراطيون، ومعهم شرائح واسعة في البلاد حالةً من القلق يقول المراقبون أنها تمثل استمراراً لحالة (اضطراب ما بعد الصدمة) الذي وقعوا فيه منذ هزيمة مرشحتهم السابقة، هيلاري كلينتون، منذ أربع سنوات على يد ترامب نفسه، رغم أن غالبية عظمى في استطلاعات الرأي كانت تتوقع فوزها إلى يوم ما قبل الانتخابات، آنذاك.
ويبدو أن هذا هو الذي دفع المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة في الانتخابات التمهيدية، والملياردير المشهور مايكل بلومبرغ، إلى التبرع بمبلغ 100 مليون دولار لحملة الديمقراطيين، بل وتخصصيها للإعلانات الانتخابية في ولاية فلوريدا التي تعتبر واحدةً من أغلى الأسواق الإعلانية في أميركا، لكن فوز بايدن فيها يكاد يضمنُ فوزه في انتخابات الرئاسة. مع هذا، ومع أن الحملة الديمقراطية جمعت 364.5 مليون دولار من التبرعات خلال شهر آب الفائت، مقابل 210 ملايين دولار جمعتها حملة ترامب، وهي أرقامٌ دائماً ما كانت مطمئنةً جداً لأي حملة، خاصةً إذا أضفنا حقيقة تقدم بايدن في استطلاعات الرأي، إلا أن حالةً من الحذر الشديد لا تزال تتلبس الديمقراطيين، وذلك بسبب استمرار قوة ترامب في أوساط قاعدته الصلبة التي تتجاوز 35٪ من المؤهلين للاقتراع.
والواضح أن استمرار شعبية ترامب رغم كل ما تحدثنا عنه من فضائح وإهمالٍ إداري يبدو لكثيرٍ من المراقبين وكأنه يُعبّر عما يمكن القول بأنه (الصرخة الأخيرة للرجل الأبيض) في أميركا. ففي خضم طوفان الأقليات، والتغيير الديمغرافي الذي ينتج عنه، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تأثيرٍ يرى البيض، وخاصةً الرجال منهم، أنه خصوصيةُ ثقافتهم وتاريخهم، يبدو هؤلاء وكأنهم يرون في المرشح الجمهوري، بكل صراحته ووضوحه حين يتعلق الأمر بالأقليات العرقية والإثنية في البلاد، وتأييدهُ الكاسح لبعض سياسات المُحافظين التقليدية مثل امتلاك السلاح الخاص ومناهضة الإجهاض والحرية الفردية المُطلقة من الحدود، القشّة الأخيرة التي يتعلقون فيها لضمان استمرار سيطرتهم على مقادير الأمور في مختلف مجالات الحياة.
نحن هنا بإزاء نوعٍ من الاستخدام القوي لما يُدعى (سياسات الهوية) يبدو متزايداً، خاصةً في أميركا وأوروبا، مع الفوضى التي يعيشها النظام الدولي المعاصر.
نحن هنا بإزاء نوعٍ من الاستخدام القوي لما يُدعى (سياسات الهوية) يبدو متزايداً، خاصةً في أميركا وأوروبا، مع الفوضى التي يعيشها النظام الدولي المعاصر. يُذكِّرُنا هذا بمقالٍ كتبه شادي حميد، الباحث في معهد بروكينغز الأميركي، ونُشرَ مع انتخاب ترامب أول مرة في مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy)، بعنوان "نهايةُ نهايةِ التاريخ، دونالد ترامب يُعيد السياسة الأميركية إلى أصلها: صراعٌ على الهوية والأخلاق والدين". تساعدُ الفكرة الأساسية للمقال في فهم المشهد الأميركي، والأوروبي، الراهن، بل إن الكاتب سحبَها أيضاً لتحاول تفسير ما يجري في عالمنا العربي، حيث يقول: "سواء في حالة العصبية لأجل مصالح السكان البيض في أميركا، أو حالة القومية العرقية في أوروبا، أو حالة الإسلاموية في الشرق الأوسط، فإن الخيط الذي يجمع كل هذه التجارب المختلفة واحد: السعي الشرس نحو سياساتٍ لها معنى يتجاوز فكرة المصلحة الفردية وجودة المعيشة.
ربما تبدو هذه الأيديولوجيات فارغة أو غير مترابطة، ولكنها جميعاً تطمح إلى نوعٍ من التماسك الاجتماعي، وترسيخ الحياة العامة من خلال هوياتٍ محددة بدقة... جوهر السياسة إذاً في هذه الحالة لم يعُد متعلقاً فقط بتحسين جودة حياة المواطنين، ولكنه يصبح في المقام الأول توجيه طاقات المواطنين لغاياتٍ أخلاقية أو فلسفية أو أيديولوجية".
المفارقة، ذات المعنى الكبير، التي لا يتحدث عنها الكاتب، تكمن في أن سيرة الرئيس الأميركي المُنتخب لا توحي، من قريبٍ أو بعيد، بأنه يصدرُ في تفكيره وقراراته عن منطلقات تتعلق بالدين والأخلاق، ومن المؤكد أنه لم يفكر في أن تكون السياسة مصدراً لتوجيه طاقات المواطنين لغاياتٍ فلسفية. لكن فوزهُ، وتحديداً بتلك الصفات، يُظهر القوة الهائلة الكامنة في سياسات الهوية والمعنى، لأنه (استخدمها) فقط، وبشكلٍ أدواتي بحت، أوصله إلى البيت الأبيض بما يمكن أن نسميه "البساطة المُخيفة". لهذا، يمكن القول أن انتخاب ترامب كان تجلياً عملياً لنقد نظرية "نهاية التاريخ" الهنتنغتونية، حيث تنتصر، وُفقَها، الليبرالية بشكلٍ نهائي.
رغم هذا، تبدو الانتخابات الأميركية الراهنة بمثابة تجربةٍ إنسانية فريدةٍ وضخمة، فلسفياً واجتماعياً وسياسياً. لأنها تُظهرُ بقوة أن الأمر يتعلق بالإنسان في كل مكان، ويُعبر عن بحثهِ الأزلي عن موقفٍ (وسط)، لا تتضارب فيه جَودة المعيشة والحياة الطيبة من جانب مع حضور المعنى والشعور بالهوية من جانبٍ آخر.
وسنرى من نتائج الانتخابات ما إذا كانت الاستهانة بعنصر (جودة المعيشة) للناس ستُصبحُ مدعاةً للفوضى، تماماً كما هي الحال عند المبالغة في النظر إليه كعنصرٍ وحيد، عندما يتعلق الأمر بصناعة السياسات. فمن يعتقد أن الشعوب ترفض رغدَ العيش، فضلاً عن الحد الأدنى من الحياة الطيبة، واهم. وهذا ما يبدو درساً آخر من دروس الانتخابات الأميركية.