شهدت منطقة الشرق الأوسط مع بداية القرن الحادي والعشرين كثيرا من التحولات والأحداث المؤلمة والعنيفة التي نجمت عن أسباب خارجية، وأهمها الاحتلال الأميركي للعراق في سنة 2003 وعوامل داخلية مع بعض التأثيرات الخارجية، وخاصة ثورات «الربيع العربي» في سنة 2011، والذي تسبب في تسليط الضوء على كثير من مواطن الخلل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، وتعتبر هذه العولمة السياسية أن منطقة الشرق الأوسط كانت دائماً تنطوي على مختلف العوامل التي تغذي الصراعات وهي تذكر على وجه الخصوص أزمات الدول العربية والتناقضات الاجتماعية والتردي الاقتصادي والتوترات الطائفية والعقائدية، فضلاً عن التدخلات الخارجية والتنافس ما بين القوى الخارجية وأجندات القوى العالمية والإقليمية، من منطقة الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا.
وتعود إيديولوجيا الشرق الأوسط الكبير إلى طروحات المؤرخ البريطاني برناند لويس في مقال له نشر في مجلة الشؤون الخارجية بعنوان (إعادة هيكلية الشرق الأدنى) عام 1992م، ولكن قبل ذلك وبعد عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م، طرح شمعون بيريز مفهوم الشرق الأوسط الجديد (الكبير)، وألف كتاباً حمل العنوان نفسه يدعو فيه إلى اختراق العالم العربي، من خلال النشاط الاقتصادي بالتوازي مع الدعم الأميركي السياسي والاقتصادي للمنطقة العربية، كما ظهر مفهوم (الشرق الأوسط الكبير) في التقرير الاستراتيجي السنوي لعام 1995م، الصادر من معهد الدراسات الاستراتيجية القومية التابع لوزارة الدفاع الأميركية، حيث خصص فصل منفرد للشرق الأوسط الكبير من المغرب حتى الحدود الصينية ليشمل المغرب العربي وآسيا الوسطى والجنوبية، وفي عام 1999م، حدث تطور عسكري مهم مرتبط بالشرق الأوسط الكبير، تمثل في نقل وزارة الدفاع الأميركية أمر القيادة العليا للقوات الأميركية في آسيا الوسطى من قائد القوات الأميركية في الباسفيك (المحيط الهادي) إلى القيادة المركزية للشرق الأوسط التي كانت تعرف بقوات الانتشار السريع، إلا أنه مع إعلان بوش الابن مبادرته (الشرق الأوسط الكبير) نجد حصول تحول في طرح حدود هذا المفهوم خاصة منذ انعقاد مؤتمر قمة الثماني ومشاركة الدول الأوروبية، حيث أصبح يطرح الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا.
يقول جورج كانن المخطط الاستراتيجي الأميركي: نحن ــ الأميركيين ــ نمتلك أكثر من 50% من ثروة العالم، بالرغم من أننا لا نشكل سوى 6% من سكانه، وفي هذه الحالة تتمثل مهمتنا الرئيسية في المستقبل أن نحافظ على مصالحنا وعلى هذا الوضع المختل لصالحنا، وكي نفعل ذلك علينا أن نضرب بالعواطف والمشاعر عرض الحائط، علينا أن نتوقف عن التفكير بحقوق الإنسان ورفع مستويات المعيشة وتحقيق الديمقراطية في العالم. كذلك قال جورج بوش: لقد تبنت الولايات المتحدة سياسة جديدة، وهي استراتيجية متقدمة للحرية في الشرق الأوسط، وهذه الاستراتيجية ستتطلب المثابرة والجهد والمثالية نفسها التي أظهرناها من قبل في نشر الديمقراطية، وسوف تأتي بالثمار نفسها. وهنا هل نصدق جورج كانن ذلك الرجل الذي يدعو إلى ضرب عرض الحائط بالعواطف والمشاعر وتحقيق الديمقراطية في العالم، أم نصدق جورج بوش الذي يأمل في نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط والإصلاحات لأجـل عيـون العــرب – المقهورين في نظره إنسانياً – ويطلب الصبر والمثابرة، من الواضح أنه منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي وجدت الولايات المتحدة ضالتها في الهيمنة على العالم ليصبح أحادي القطب، وبدأ حل القضايا العالمية على الطريقة الأميركية مثل الشرق الأوسط، البوسنة، والصومال. وكان مؤتمر مدريد للسلام بعد ضرب العراق وعزله، الفرصة المثالية لترسّخ واشنطن أقدامها في الخليج، قواعد وأساطيل وأسواقاً للسلاح، وانفرط العقد بعيداً عن مرجعية الأمم المتحدة، ونتاجاً لهذه الهيمنة الأميركية على العالم ابتعدت الولايات المتحدة في كثير من خطواتها عن الأمم المتحدة.
وهنا وعلى كل من يتعرض لـمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد؛ أن يلفت النظر إلى أنه مشروع متحرك، غير ثابت، تتعدد صياغاته السياسية والجغرافية، وتتباين أفكاره ورؤاه الاقتصادية والثقافية، وفقاً لاختلاف مصالح الدول والقوى التي تقف وراءه وتعمل على إنجازه وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ومرورا بأوروبا وكندا واستراليا، وما زال مشروعا ممتداً ومفتوحاً يسعى لجذب أطراف أخرى إلى الأطراف العربية القابلة به، ومنها تركيا وإيران ودول آسيا الوسطى، وقد يضيق ويقتصر على عدد أقل، حسب المستجدات وتطورات الأحداث.
وعرض فكرة المشروع وتطوراته يتيح فرصة تحديد مداه وحدوده، حيث انطلقت فكرته من موقع الشرق الأوسط المتميز والاستراتيجي، وثرائه الحضاري والثقافي، الذي لم يفقد قيمته بعد، وما زال محط اهتمام بالغ من الدنيا كلها، وفيه بزغ فجر الحضارات الإنسانية، التي نشأت على أرضه وتنوعت، وملكت مفاتيح الحكمة والمعرفة والعلوم والعراقة، وتراجعت أحوالها مع الكشوف الجغرافية وبدء الحقبة الاستعمارية؛ وهي حقبة مستمرة بصيغ متعددة وصور متنوعة حتى وقتنا الحالي.
وبعدها قدمت الإدارة الأميركية مشروع «الشرق الأوسط الكبير» إلى مجموعة الدول الصناعية الثماني؛ وعملت على بلورة موقف موحد منه في اجتماع عقد خصيصاً بالولايات المتحدة عام 2004؛ وتناول ذلك الاجتماع ما عُرف بـالنواقص الثلاثة الواردة في تقريري التنمية البشرية العربية الصادرين عن الأمم المتحدة عن عامي 2002 و2003، وكانت كالآتي:
1) نقص الحرية 2) نقص المعارف 3) عدم تمكين المرأة، وقد اعتبرها تهديداً لمصالح الدول الصناعية الثماني، حيث رأى أن تزايد أعداد المحرومين من الحقوق السياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط يزيد من معدلات التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير الشرعية.
وفي الختام فإنه يتبين من خلال البحث أن مشروع الشرق الأوسط الكبير بأبعاده ودلالته ومنطلقاته الفكرية يعد بمنزلة غلاف برّاق لمصالح الولايات المتحدة الذي يستهدف في نهاية الأمر عقلية الشعوب الأخرى الذي تعدها أميركا والغرب أدنى من العقلية الغربية وأقل قدرة على التفكير والإبداع، وأن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي حاولت أن تروج له الولايات المتحدة من جانبها لم يتحقق منه إلا تبديل بعض كراسي السلطة بينما ظلت بعض الدول في اضطرابات عنيفة إلى اليوم مثل سوريا وليبيا واليمن ومن قبلها العراق، مما يجعلنا نتساءل عما كان يعنى به تعبير «الشرق الأوسط الكبير» في خيال من خططوا له.