مؤلِمة هي تلكَ المشاهد. رضيعٌ يُستخرجُ من أعماقِ البحر المُتوسّط، وجواز سفرٍ لم يجد أحدٌ صاحبه، وأمّ تبحثُ عن ابنها، وأبٌ قُذِف جثّة إلى ساحل قبرص، فيما الأمّ على ساحل طرطوس تنتظُر خبراً عن أبنائها التّائهين بين أمواج البحار، ولا أحد يلعم مصيرهم سوى الله.
حكاياتٌ كثيرةٌ تلكَ التي يحملُها هؤلاء الغرقى، أو الذين لم يُحالفهم الحظّ فعادوا أحياءً إلى سوريا ولبنان.
يهربون من بؤس الحياة على ساحل شرق المُتوسّط. هذا السّاحل الذي تحوّل نقمةً على قاطنيه. لا حياة كريمة، ولا عيشٌ هانئ.
كثيرون هم الفلاسفة الذين خرجوا علينا بدروسٍ في الوطنيّة. وكثيرون هم الذين سألوا: "وهل يمتلك الفقير ثمنَ هذه الرّحلة؟". وبئسَ ما قالوا وسألوا
ليسَ تفصيلاً عابراً أن يُقرّرَ المرءُ المُجازفة بكلّ ما يملك، وأن يُجازِفَ بنفسه، وعائلته وصغاره وكباره، لأنّ ما يهرب منه كان أعظم.
كثيرون هم الفلاسفة الذين خرجوا علينا بدروسٍ في الوطنيّة. وكثيرون هم الذين سألوا: "وهل يمتلك الفقير ثمنَ هذه الرّحلة؟". وبئسَ ما قالوا وسألوا.
لم يُكلّفوا أنفسهم عناء السّؤال "لماذا قرّرَ أولئكَ ركوب البحرِ؟". الجواب قطعاً: هرباً ممّا على اليابسة.
فما هو العيشُ في سوريا أو لبنان سوى حياة بلا هدف، وذلٌّ بلا رحمة. لا كهرباء ولا مياه ولا استشفاء ولا عمَل ولا مدخول وحتّى هواء. ويسألون لماذا؟ عجباً لأدمغتهم، إن وُجِدَت أساساً. لا يريدون للنّاس أن تعيشَ ولا أن تحاولَ العيشَ ولا أن يُفسحوا لهم الدّرب ليُغادروا جحيمهم.
لو وجَد هؤلاء رغَد العيشِ على امتداد الـ 180,180 كم2 في سوريا أو الـ 10,452 كم2 في سوريا لما لجأ الواحد منهم إلى الإبحار في 2.5 مليون كم2 في البحر الأبيض المُتوسّط. لكنّ للأنظمة أحكام.
ولنا أن ننقل لسان حال أولئك المُنظّرين: سيفوتُ هؤلاء المُهاجرين مُتعة المُشاركة باستفتاء رئاسيّ، وسيفوتهم أيضاً المُشاركة في المُصادقة على تعيين مجلس الشّعب، ومُتعة الهتاف للسّيّد الرّئيس وافتدائه بالرّوح والدّم، والنّظر إلى صوره المُنتشرة في الدّوائر الرّسمية وعلى سيّارات الأجرة وأعمِدَة الإنارة وعند كلّ حاجزٍ للفرقة الرّابعة وفي الأندية الرّياضيّة وملاعب كرة القدم وغيرها. وسيفوتهم سماع أصوات البراميل وهي تتساقط فوق رؤوسهم. أو طائرة السّوخوي الرّوسيّة تُقلع من حميميم لتصبّ حممها في إدلب.
المُهم أن يخرجوا من تلك الأرض التي استحكَم فيها طُغاة الأرض، فغيّروا هويّتها وجفّفوا ماءها، وقلبوا ليلها نهاراً ونهارها ليلاً
كما قد يفوتهم مُشاهدة مواكب الإيرانيين تشقّ طريقها وسط سوق الحميديّة نحو مقام السّيّدة الرّقيّة وهم يلطمون صدورهم العارية.. فعلاً خسارة!
كلّ كلمةٍ ممّا سلف هي سبب كافٍ يدفَع الكبير والصّغير، والمرأة والرّجل لأن يحجزوا مكاناً في مركبٍ سينطلق بعشرات الرّكاب تحت جناح الليل ولا أحد يعلم إن كان سيصل وجهته أم لا، المُهم أن يخرجوا من تلك الأرض التي استحكَم فيها طُغاة الأرض، فغيّروا هويّتها وجفّفوا ماءها، وقلبوا ليلها نهاراً ونهارها ليلاً.
قبل الخوض بصوابيّة الهجرة بالبحر أم لا، لينظرَ الواحد منّا ماذا دفع المواطن السّوريّ واللبنانيّ واللاجئ الفلسطينيّ أن يزيدَ معاناةً إلى مُعاناته، وأن نُدرِكَ أنّ تلكَ الأنظمة "المُقاومة" نجحَت في مُقاومة الحياة الكريمة، وصارَ الخيار الجحيم على البرّ أو الموت في البحر...