في أواسط القرن الماضي، انتهى بشكل ما عصر القوى الاستعمارية الكبرى التي لم تترك البلاد التي استعمرتها إلا بعد أن شوهت فيها قيم الحداثة المتمثلة بتشكيل الإدارة والبرلمان والقضاء والأحزاب وغيرها من مؤسسات الدولة، وتجلّى ذلك التشويه في التناقض الصارخ، بين قيم الديمقراطية وحقّ الشعوب في حكم نفسها وتقرير مصيرها واختيار شكل الحكم الذي ترتضيه، ودورها في نهب وقمع شعوب هذه البلاد التي تنشد استقلالها وتحررها. ولاستكمال تلك المهمة، أسست تلك الدول الأرضية لنخبة حاكمة ذات خلفيات عسكرية وأقلياتية، تتولى السلطات بطريقها المعهود في معارضة الشعب الطامح إلى استقلال حقيقي، هذه السلطات التي انتهى بها الأمر بسيطرة السلطة التنفيذية، متمثلة بأجهزة المخابرات المتعددة على باقي السلطات، وحتى على عموم أشكال الحياة العامة، ساعدها في ذلك نخبة متعالية على الناس تعتقد أن تصوراتها أهمّ من الوقائع.
ولّد هذا الأمر لدى الشعوب ردة فعل سلبية، تجاه قيم التحديث والتقدم مثل الدستور والحرية والديمقراطية والعلمانية، وخاصة بعد تبيّن زيف ادعاءات أنظمة ما بعد الاستعمار، حيث كثّفت هذه الأنظمة، المدعومة أو المسكوت عن طغيانها من القوى "الديمقراطية"، سيطرتها من خلال الأجهزة الأمنية فقط، ومارست شتى صنوف القهر والقمع باسم تلك القيم، فخلقت كما القوى الاستعمارية حالة من التضارب بين التصور والواقع، فحدود الكيانات مفروضة نتيجة ظروف خارجية، وفشلت بامتياز بدمج الجماعات التي ضمتها تلك الحدود في جماعة وطنية، بل غذّت الانتماء إلى الجماعات الطائفية أو الإثنية وجعلت منها سياسة، وعممت سياسة التغييب والاعتقال بمواجهة الرأي المختلف. باختصار عمقت المفارقة القديمة التي خلقتها قوى الغرب بتعميق التناقضات بين الخطاب والواقع.
يكتمل تناقض المشهد هذا بدور أصحاب العمى الإيديولوجي الذين وضعوا تصورات للسياسة بناء على عقائدهم التي لا يأتيها الخطأ، متخوفين من حركة الجماهير واقتحامها المجال العام
تجلت ردة الفعل الشعبية تجاه قيم الحداثة (الحرية والديمقراطية والمواطنة والعلمانية) بالميل نحو التشبث بالقيم والكيانات التقليدية، كتميز عن قوى القهر، وكجدار تستند إليه الشعوب في مقاومتها، حيث غدا من المستحيل ألا ترفع الشعوب بوجه هذه الأنظمة راية الدين، كخزان مقاوم احتياطي لكل ذلك العسف، وهو الأمر المستغرب والمستهجن من إيديولوجيي المرحلة، سواء في الأحزاب أو المستقلين، الذين احتج بعضهم في وقت لاحق على أن الثورة في سوريا انطلقت من المساجد، دفاعاً عن قيم تقليدية، فهل كان من المتوقع من تلك الجماهير المسحوقة أن ترفع الشعارات نفسها التي تُقتَل باسمها من أنظمة القمع: التحرر والتقدم والعلمانية وغيرها! وفي المقابل، كان صوت الشعوب وحركتها موجهاً نحو الخلاص من هذه الأنظمة وتغييرها، كونها العقبة الأساسية أمام أي تقدم.
يكتمل تناقض المشهد هذا بدور أصحاب العمى الإيديولوجي الذين وضعوا تصورات للسياسة بناء على عقائدهم التي لا يأتيها الخطأ، متخوفين من حركة الجماهير واقتحامها المجال العام، الذي كان لفترة طويلة مجالاً مقتصراً على تلك النخب سواء الحزبية أم المستقلة، فكانت مواقفها متباينة تشترك في تقديم النصائح والمشورة، وعندما لا تلاقي نصائحها الاهتمام اللازم، أو حسب مصطلحاتها لا تتبناها الجماهير، تنهال بالاتهامات على ذلك الجمهور بأفضل الأحوال بأنه لا يعِي مصلحته، وتنتقل لتكمل مشوارها النضالي نحو ممارسة التنظير حول القضايا التي ستأتي، من قبيل ما هي طبيعة الدولة المقبلة، مدنية أم دولة المواطنة، وما هو شكل النظام المقبل، وعن علمانية الدولة أم حياديتها، وغيرها من قضايا الحداثة التي شوهها كل من الأنظمة الجاثمة فوق صدور الشعوب والغرب الذي لا يزال يدعمها.
لا شك أن الشعوب العربية عانت كثيراً من ويلات المستعمرين الذين نهبوا وقتلوا باسم قيم الحرية والديمقراطية، وكذلك من السلطات التي أورثوها الحكم، وسميت زوراً حكومات الاستقلال، بينما في جوهرها أنظمة تابعة مهمتها لا تقتصر على ترويض البشر وقتل روح التحرر لديهم، بل حتى الخلاص منهم بالاعتقال والتهجير والقتل، وللسخرية أن بعضاً من الساسة المؤدلجين أصحاب التصورات المسبقة ساهموا بشكل ما في رسم صورة سلبية عن حال الشعوب التي يدعون الدفاع عن قضاياها، من خلال الابتعاد عن المشكلة الحقيقية المتمثلة بالخلاص من الطغيان والانتقال إلى نظام ديمقراطي، الذي يشكل الخطوة الأولى نحو إمكانيات التغيير الحقيقية، فطرحوا قضايا ما بعد التغيير قبل إنجاز عملية التغيير، ناهيك عن التقاطعات في الشعارات واللغة ذاتها المستخدمة ضدهم، وهو ما يزيد في حالة التشتت التي تعيشها "الأحزاب" الفعلية والافتراضية، ناهيك عن حالة اليأس بين الجمهور.
ورغم ما أصاب الثورة من انتكاسات وهزائم، تبقى الأمل، والسبيل الوحيد لانتزاع الحقوق
تعاني سوريا من أسوأ المراحل في تاريخها الحديث على المستويات كافة، فنصف السكان مهجرون، وهناك مئات آلاف المعتقلين، وعدد من ماتوا يصل إلى مليون شخص، وثلاثة أرباع السوريين تحت خط الفقر، إن لم نقل المجاعة، وهي أمور ترسم حالة الانكسار التي تعيشها الثورات العربية اليوم، لكن من جهة ثانية، ليس النظام بأفضل حال، فقد توجه اليوم نحو أكل داعميه من الدائرة الضيقة الذين استولوا على نصف مقدرات البلاد يوماً ما، عدا حالة الإفقار المتعمد لعموم الناس والنهب الممنهج لما تبقى في البلاد، كل هذا يدفع نحو خيار التقارب والاهتمام باللحظة الراهنة ومشاكلها، وجوهره سياسي يتمثل بالتغيير الديمقراطي الذي نشدته ثورات عام 2011، التي أطلقت روح التمرد ورفض الطغيان، والذي يفتح الباب لإعادة فهم جديد للتحرر والديمقراطية والمواطنة.
ورغم ما أصاب الثورة من انتكاسات وهزائم، تبقى الأمل، والسبيل الوحيد لانتزاع الحقوق. فالأمر لا يحتاج إلى مزيد من التعقيد، يحق لكل شعب يرزح تحت الاحتلال المقاومة، وهي التي تكسب الشرعية، وكذلك بالنسبة للشعوب التي تنشد التحرر والعيش بكرامة، وهذا هو جوهر السياسة التي تتشابك مع الهموم القائمة لا الهموم والمشاكل المتصورة، الأمر الذي يستدعي التخلي عن تبادل الاتهامات وتحميل مسؤولية الحال الذي وصلنا إليه لطرف دون غيره والتوقف عن عملية جلد الذات، والتوجه لمراجعة ما حدث بعين نقدية والسعي لتشكيل سياسي وطني على الأرض. إن ما تعرضت له البلاد وثورتها، وخاصة من النظام وداعميه: روسيا وإيران يفوق الخيال، عدا ضغوط وتدخلات القوى الأخرى، واجتياح قوى التطرف والقمع وهيمنتها في النهاية على المشهد، يدفع السوريين نحو الانتقال إلى حال من التطبيع والتقارب فيما بينهم، على أساس العمل للخلاص من النظام وتغييره، فلن يحصّل حقوقهم أحد غيرهم، وإلا فسيكون مصيرنا أكثر مأساوية مما حدث منذ مئة عام حيث تقسيم البلاد وإنشاء كيانات قائمة على القسر والإكراه.