في محطات الثورة السورية ثمة التباس يكتنف تداخلاتها ومحاورها ومعطياتها، لدرجة الخلط المستمر بين حدودها ومتغيراتها. وإذ أؤكد كلمة "الثورة" فلكونها ثورة تعددت فرضيات حلها ومقوماتها بتعدد الأيديولوجيات والأحلام والأماني التي حملتها، وتعدد مراحل نموها وانحسارها وتبدلات مساراتها، وهذا الالتباس تمظهر في محطات طويلة ومتعرجة يمكن رصدها واقعيًا.
سوريا من الثورة للحرب، من التظاهرات السلمية التي اجتاحت المدن السورية كلها إلى كثافة التدخلات الإقليمية والدولية العسكرية والسياسية. مسارات ومحطات، تتعرج وتتداخل يمكن تحديدها في مفاصل عامة لا يمكن أن تستنفدها أي منها منفردة:
- التظاهر السلمي وثورة "الشعب السوري الواحد": ثورة الشباب التوّاق للحرية ودولته العصرية، دولة الحق والقانون، دولة الحريات في ممارسة العمل السياسي وحق التظاهر السلمي وتشكيل المنابر والأحزاب والمنظمات المدنية التي تصونها وتكفلها الدساتير، دولة ينظر إليها السوريون أنهم يستحقونها، وبأنهم ليسوا أقل إمكانية من أقرانهم في دول العالم المتقدم. قد يختلف الكثيرون حول طول مدة هذه المرحلة وقصرها، بين ستة أشهر لما يزيد على 18 شهرا، تلك التي وثقتها أسماء وتظاهرات الجمع السورية بدءًا من جمعة "الكرامة" في 25/3/2011، وجمعة "رغيف الدم" أواخر 2012، وبشكل متتالٍ أسبوعيًا، ووصلت في بعض المناطق لليومية.
حققت هذه المرحلة اعترافا عربيا ودوليا بأحقية الشعب السوري وتطلعاته المشروعة للعيش في دولة تحترم الحريات والحقوق والتعددية السياسية والفكرية، والتي عبرت عنها جامعة الدول العربية باعتبار النظام السوري غير شرعي واستبعاده منها، وببيان جنيف 1/2012 الأممي الذي قال بضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات.
ترافقت تدخلات حزب الله الطائفية والميليشيات الإيرانية، مع تنامي الفصائل العسكرية ذات الصبغة الإسلامية واضمحلال وتآكل فصائل الجيش الحر واغتيالات قادتها الأوائل
- مرحلة الرجحان السلمية-العسكرية والتحول التدريجي للعمل العسكري وتشكيل فصائل الجيش الحر من العسكريين والضباط المنشقين عن الجيش الذي استخدم في قمع المتظاهرين واعتقالهم، وقد ترافقت مع استمرار المظاهرات السلمية وعمل سياسي كثيف في أروقة المعارضة السورية تجلى بتشكيل صيغة المجلس الوطني التي تطورت إلى ائتلاف قوى الثورة والمعارضة وهيئة التنسيق الوطنية، هذا مع تحذيرات عديدة من صعوبة التحكم بالمسار العسكريّ ونتائجه الخطيرة الممتدة لزمن. وهذه المرحلة بدأت من أوائل 2012 ولم تدم طويلًا فسرعان ما انتقلت لمرحلة التدخلات الإقليمية التالية بدايات 2013.
- مرحلة التدخلات الإقليمية وتنامي التطرف والإرهاب، حيث ترافقت تدخلات حزب الله الطائفية والميليشيات الإيرانية، مع تنامي الفصائل العسكرية ذات الصبغة الإسلامية واضمحلال وتآكل فصائل الجيش الحر واغتيالات قادتها الأوائل، المرحلة التي تفاقمت فيها نزعتا الكراهية والعنف وتأجيج الصراع الطائفي والمذهبي وتعدد الجبهات والمتحاربين، وتراجعت فيها تراجعا شبه كلي المظاهرات السلمية، وترافق ذلك مع ظهور الفصائل الإرهابية المتطرفة دينيًا متمثلة بداعش والنصرة.
- مرحلة التداخلات الجيوبوليتكية الدولية العسكرية، والتي دشنتها روسيا في سبتمبر 2015، بإعلانها التدخل العسكري الجوي بداية في سوريا ولمدة أربعة أشهر حسب تصريحات رئيسها فلادمير بوتين. لكنها تحولت لحرب مفتوحة استمرت بجزئها الرئيسي حتى 2018 ونتابع لليوم تداعياتها. تلك التي أتت على التهجير الداخليّ السوريّ والسيطرة على الداخل السوري عسكريًا. وقد ترافق هذا مع التدخل الأميركي ومن خلفه حلف الناتو في الحرب على داعش شرق الفرات، وتوجه الأكراد فيها لتشكيل شبه حكم ذاتي مدعومًا من قوى التحالف ذاتها، وتحول شمال غربي سوريا لمنطقة للمهجرين السوريين وتحت سلطة قوى أمر الواقع.
- مرحلة العطالة والاستنقاع السياسي: رغم تحقيق روسيا وحلفائها من سلطة النظام والميليشيات الإيرانية نصراً عسكرياً على مختلف الفصائل المسلحة سواء المعارضة أو الإسلامية، وانحسار العمليات العسكرية من داخل ما يسمى سوريا المفيدة، وبقاء استمرارها على خطوط التماس في شمال غربي سوريا، لكن روسيا لم تتمكن من فرض حلها السياسي المنفرد في سوريا. المرحلة الممتدة من 2018 لـ 2023، تقدمتها لقاءات اللجنة الدستورية المنبثقة عن القرار الأممي 2254 وعن توصيات مؤتمر سوتشي الروسي والتي لم تثمر سوى عن عطالة مستدامة في الحل السوري. ومع هذا استطاع النظام العودة لجامعة الدول العربية وبقاء العقوبات الدولية عليه دون حدوث تغيير في مسار الحل السوري وفي بنود تحقيقه سواء بالدخول بمرحلة انتقالية أو الإفراج عن مصير المعتقلين والمغيبين قسرياً، أو العودة الآمنة للمهجرين، أو التعافي المبكر الاقتصادي كما نظرت له المنظمات الأممية.. وجميع هذه تشير إلى استنقاع المسألة السورية، لا بل تدهوره سياسياً وأمنياً وتعليمياً واقتصادياً.. ما لم يحدث التغيير السياسي الفعلي.
- استعادة جذوة الثورة: فاليوم ومنذ منتصف الـ 2023، تستعيد سوريا قوة مظاهراتها السلمية في السويداء، المنطقة التي وصفت بالحياد تجاه مجريات العمل العسكري منذ 2013، وتوصف أنها تحت سيطرة النظام سياسياً. لتخرج السويداء شعبياً وأهلياً على هذه المعادلة وتعيد للثورة السورية الأولى ألقها. حيث مطلبها الأساسي هو التغيير السياسي وفقاً للقرار الدولي القاضي بالدخول بالمرحلة الانتقالية أولاً، وبعد ذلك انتخاب هيئة تأسيسية لصياغة الدستور ونظام الحكم ومستقبل سوريا ثانياً. وعنوان مظاهراتها المستمرة يومياً للشهر السابع، والتي تأتي مع ذكرى الثورة الثالثة عشرة اليوم، سوريا لكل السوريين، والشعب السوري واحد.
التغيير السياسي السوري للسلطة القائمة يعني الإفراج عن المعتقلين وعودة المهجرين والدخول في مرحلة التعافي السياسي والاقتصادي وإنهاء الحرب وارتداداتها السياسية والنفسية والاجتماعية
مظاهرات السويداء اليوم: تستعيد السلمية والحل السياسي، تحاول الاستفادة من تجارب مطبات الثورة السورية وتحولاتها، إذ تستبعد العنف والدخول في معترك عسكري خاسر للجميع، وتدرك أهمية القرار 2254 الكاشف لمستوى التداخلات الدولية في الملف السوري، وتحاول الخروج من دوائر الاستعصاء السياسي بين تجاذبات القوى السورية المحلية أو الدخول في محاور الصراع الإقليمي والدولي. والأهم من هذا تطرح عناوين واضحة للاستقرار والسلام في المنطقة: فالتغيير السياسي السوري للسلطة القائمة يعني الإفراج عن المعتقلين وعودة المهجرين والدخول في مرحلة التعافي السياسي والاقتصادي وإنهاء الحرب وارتداداتها السياسية والنفسية والاجتماعية. وليس هذا فقط، بل إيقاف تمدد الميليشيات الطائفية الإيرانية، وتعطيل مفاعيل قوى التطرف والإرهاب، وإبطال تحويل سوريا لمزرعة لتفريخ تجارة المخدرات وغزو المنطقة والعالم بها. وهو ما يمثل مصلحة متكاملة لسوريا ودول الجوار والعمق العربي. وأيضاً، يطوي مرحلة من تراجع القيم العالمية التي لم تتمكن من نصرة الشعوب فعليًا في حق تقرير مصيرها التي بنيت على أساسها مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان.
باتت السويداء وسوريا اليوم أمام نقطة تحول مفصلية في المسألة السورية، ولا خيارات أمامنا سوى الاستفادة من تجارب الثورة السابقة. فخلاصة التاريخ البشري يؤكد على أن مقومات نجاح الثورات سلميًا ضعف نجاحها عسكريًا، وأن الخروج من الاستعصاء المحلي يعني الخروج من دوائر الصراع الإقليمي والدولي والتمسك بالتغيير السياسي الوطني. ومع أن هذا ليس بالأمر اليسير أمام تعقد المشهد السوري، لكنه يعني بالمبدأ أن الشعب وحقوقه المادية والسياسية لم يكن المشكلة، بل استقراره وأمانه هو بوصلة الحل. فيما أن المشكلة الرئيسية في سوريا والتي لا يمكن حلها بوجود مسبباتها هو سلطة النظام القائمة وقوى الأمر الواقع التي تشكلت على خلفية تحولات المشهد السوري. إنه مسار التحولات الكبرى والفعل الشاق لاستحقاق الوجود والحياة في دولة لكل السوريين، واليوم نستعيد جذوتها.