كان أبو إسماعيل -أحد أبناء قريتنا- رجلاً طويل القامة، ظلّ أصدقاؤه يمازحونه بقصر قامة زوجته، حتى سمعتُه ذات يوم يردّ على مزاحهم قائلاً: أقسم إني رأيتها، يوم خطبتها، تحني رأسها لتتمكّن من دخول الباب حاملة فناجين القهوة!
ضحك الجميع لمزاح الرّجل، وذكر أحدهم بيت الشّعر:
وعين الرضى عن كل عيبٍ كليلـة
ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا
لكن عن أية عين يتحدّث الشاعر، عين القلب أم عين الرأس، وهل يمكن الاتّفاق -بين غير العُشّاق- على رؤى القلب؟!
للحق والحقيقة سلطانٌ كان لا يمتلكه سوى رجال الدين والمُلوك المُباركين فحسب في أوروبّا القرون الوسطى؛ لذلك لم يكن رجال الدين ليمرّروا لـ "غاليليو توفي 1642" حقيقة لاحظتها عين رأسه عبر التليسكوب، ومفادها: "أنّ الأرض تدور حول الشمس"، فتلك معرفة ناتجة عن ملاحظة رجل غير مبارك لحركة المادّة، وقد تؤدي تلك المعرفة إلى اتّهام متبنّيها بالـ "تجديف على الله" بحسب وعي معرفي مرتبط بسلطان "الروح القُدس" في أوروبّا تلك الأيّام!
لاحقاً أعاد الوعي الحداثي في الغرب الاعتبار إلى المعرفة الناتجة عن ملاحظة غير المباركين - الإنسان العادي - لحركة المادة، وأتاح للإنسان بوصفه ذاتاً حرّة امتلاك سلطة تعيين الحقيقة الماديّة، ومسؤوليّة تقييمها فيما إذا كانت حسنة أو غير حسنة.
ولمّا كان للإنسان بُعدان -روحي ومادي - فإنّ عُلوم المادّة قدّرت البُعد المادي في الإنسان، فنشأت فكرة الحقوق الطبيعية، و"العقد الاجتماعي المدني" لتأطير تلك الحقائق المعرفيّة والحقوق المدنيّة في إطار اجتماعي سيكون فضاءً موازياً أو بديلاً عن "العهد الإلهي" ومجتمع رعايا الملِك.
قلنا "موازياً" لأنّ البريطانيّين -والأميركيّين لاحقاً- لم ينكروا في عقدهم الاجتماعي البُعد الروحي للإنسان، ولم يُعلِنوا القطيعة مع الموروث، إنّما أعادوا قراءة الموروث الديني لإنتاج مفاهيم مدنيّة تحفظ للإنسان بعده الروحي في -حريّة المُعتقد - ويعوّل هذا التّوجّه على إمكانيّة تسامح الأفراد حول اختلاف معتقداتهم الروحيّة التي لا يمكن إخضاعها للقياس على أيّة حال؛ في حين انتهت الثورة الفرنسيّة "1789- 1799" إلى ما سيكون أحد ملامح الثقافة الفرنسيّة الحديثة والمعاصرة، القائمة على فكرة "الانقطاع الأبستمولوجي"، منذ مال الفرنسيون إلى "فصل الدين عن الحياة المدنيّة العامّة" ومن ثمّ أصبح المجتمع المدني -بمفاهيم اللّائكيّة الفرنسيّة- بديلاً عن الجماعة الروحيّة.
على أنّ كلا التجربتين: الليبراليّة واللائكيّة أكّدتا على دور الفرد، فهو من سوف يعيّن مصالحه في المجتمع المدني.
احتلّت فرنسا سوريا عام 1920 وخرجت عام 1946 ولم يقيّض للإنسان السوري لا الليبرالي ولا اللّائكي، ممارسة تجربته الوطنيّة، لإنتاج مفاهيمه المدنيّة المحلّيّة.
وقبل ما يزيد على قرنٍ بعقود قليلة بدأ الوعي الحداثي العربي محاولة تجاوز نموذج الدولة الدينية نحو التّمدّن الاجتماعي والدولة المدنيّة، فمال الليبراليّون من دعات الإصلاح -كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا والكواكبي- إلى التجربة الإنكليزيّة، ودافعوا عن إمكانية قبول الثقافة الإسلاميّة -بطوائفها ومذاهبها المتعدّدة- للمخالفين في المذهب أو العقيدة، ومن ثمّ تحقيق التسامح بين الجميع والالتفات للمصالح المدنيّة على قاعدة المساواة في الحريّات والحقوق، فيما مال اللّائكيّون كشبلي الشّميّل وفرح أنطون إلى التجربة الفرنسيّة لتحقيق الغاية ذاتها "المساواة المدنيّة في الحريّات والحقوق"، ودارت آنذاك، بين الفريقين، معارك فكريّة راقية حول أثر البعد الروحي في تمكين، أو تعذّر تمكين، الإنسان الفرد من تعيين "الحقيقة" الموضوعيّة في الواقع المادي، ما سيؤثّر على قدرته في تعيين إطار مصالحه المدنيّة للدفاع عنها في الإطار المدني.
احتلّت فرنسا سوريا عام 1920 وخرجت عام 1946 ولم يقيّض للإنسان السوري لا الليبرالي ولا اللّائكي، ممارسة تجربته الوطنيّة، لإنتاج مفاهيمه المدنيّة المحلّيّة، إنّما فرض المستعمر على الجميع تجربة "التمدين والتحديث" على نمط تجربة المستعمر!
مرّت نحو مئة سنة على أيّة حال، ورغم أنّ الشارع السوري -كأفراد - هو من أشعل ثورته عام 2011 فقد انتهينا -بعد كوارث التهجير والتقتيل والتقسم – إلى القرار الأممي 2254 الصادر عام 2015 والقاضي بوقف إطلاق النار، وإجراء عمليّة انتقال سياسي، وإعادة النازحين إلى مناطقهم، وتشكيل بيئة آمنة لإجراء انتخابات، وتعديل الدستور -العقد الاجتماعي-.
لعلّ التوالي الزمني والمنطقي كان يفترض الكلام السّابق لولا تجزيء المبعوث الدولي "ديمستورا" القرار الدولي إلى سلال أربعة، وتأخير سلّة الانتقال السّياسي، وتقديم سلّة الدستور، فأحدث اجتهاد المبعوث الدولي، وعدم رغبة الدول المتصارعة في سوريّا إحداث تغيير في الحدود المرسومة بين السوريين بحسب مصالح تلك الدول، وركون قوى الأمر الواقع إلى محاولة تثبيت الواقع على ما هو عليه من التقسيم، حتى أنتج بعضها "عقده الاجتماعي"، كل ذلك أطاح بالتسلسل المنطقي للزمن ولتاريخنا الراهن نحن السّوريين!
وعلى غرار ثورة 2011 جاءت انتفاضة السويداء الأخيرة - بواسطة أفراد الشارع مجدّداً - لتعيد الأمل في استعادة المبادرة الشعبيّة لدورها، وأتاحت الفرصة للشارع السّوري حتى يعيّن حقيقة المفاهيم التي تضمّنها القرار الدولي 2254، وأتاح الحراك الفرصة لطرح العديد من المبادرات المدنيّة في هذا الصّدد.
قبل عدّة أشهر كان الشّيخ الهجري -أحد الزعماء الروحيين لطائفة الموحّدين الدروز – قد أعلن في كلمة له عن تأييده للحراك الشعبي المناهض لنظام الأسد في السّويداء بوصفه حراكاً يطالبُ بدولة "مدنيّة علمانيّة" فلقي تصريح الشّيخ وقتها تشجيعاً واسعاً من أصحاب النزوع اللائكي، رغم أنه تصريح رجل دين في النهاية، وفي ذكرى انطلاقة الثورة جاءت وثيقة المناطق الثلاث كتعبير عن تدخّل الشارع السّوري في تفسير القرار الأممي، ولفت نظر العالم والمؤسّسات الدوليّة إلى رغبة السوريين في الجنوب والشمال بالاتفاق، ومن ثمّ الاتّحاد، وإذا جاز لنا الإسهام في تأويل تلك المبادرة فلعلّنا نقول: إنها أرسلت رسالة غير مباشرة عن رغبة "المختلفين مذهبيّاً" بالنموذج الإنكليزي للدولة المدنيّة.
مفردة "العلمانيّة" التي غالباً ما يجري تداولها -باعتبارها مفهوماً واحداً- ضمن خطاب شعبوي يتوسّل الترغيب أو الترهيب بشأنها؛ إلّا أنها ذات دلالتين مختلفتين على الأقل بين التجربتين الإنكليزية والفرنسيّة.
وبمناسبة ذكرى الجلاء 2024 أصدرت مجموعة منظمات وتيارات وتجمعات وناشطين "وثيقة المبادئ الخمسة" التي تؤكّد حريّة ووحدة سوريا والسوريين، لكن الشيخ أحمد الصياصنة -أحد الموقّعين على الوثيقة- أعلن عن سحب توقيعه احتجاجاً على تغيير طرأ على مقدّمة الورقة دون مناقشته، وتمثّل ذلك التغيير بإضافة كلمة "العلمانيّة"!
وذهب بعض المتابعين إلى تشبيه النقاشات الدائرة حول "العلمانيّة" في هذا الوقت بـ "العربة التي توضع قبل الحصان" في إشارة إلى أنّ إثارة اللغط من شأنه أن يستهدف مسعى الحراك الشعبي، والمبادرة المدنيّة لإفشال هدفها.
ولعلّنا نشير أيضاً إلى أنّ وثيقة المبادئ الخمسة احتوت على خمسة مبادئ تبدو منسجمة مع بعضها البعض، ومع توجّه الحراك الشّعبي في السّويداء وصيرورة الثورة السوريّة في العموم، ولعلّ هذي المبادئ كانت لتكون كافية للاتفاق عليها دون مقدّمة ربّما أدخلت مفاهيم ومصطلحات -بغض النظر عن مفردة علمانيّة- تبدو طارئة على روح النص برأينا؛ إذ يمكن ترجمتها عن الإنكليزيّة والفرنسيّة لتعطي مفاهيم مختلفة حتى عن نصها المنشور باللغة العربيّة؛ فضلاً عن أنّ مفردة "العلمانيّة" التي غالباً ما يجري تداولها -باعتبارها مفهوماً واحداً- ضمن خطاب شعبوي يتوسّل الترغيب أو الترهيب بشأنها؛ إلّا أنها ذات دلالتين مختلفتين على الأقل بين التجربتين الإنكليزية والفرنسيّة كما حاولنا الإشارة في مقالنا.
وعلى أيّة حال فلعلّ من يقرأ النقاشات التي دارت قبل مئة عام بين أصحاب الطرح اللّائكي وبين أصحاب الطرح المدني فإنه سيقع على إرث جادٍّ وغني بالأفكار؛ ولعلّه يتجاوز شعبويّة إطلاق هاشتاغ من نحو "الدين هو الحل"، أو "العلمانيّة هي الحل" بمرحلة جيدة من الوعي والمسؤوليّة.