مدافع الكلمات المدويّة

2024.11.15 | 06:40 دمشق

8777777774
+A
حجم الخط
-A

يقول ابن خلدون، عالم الاجتماع الأشهر:"عندما تنهار الدول يكثر المنجّمون والأفّاقون والمتفقّهون والانتهازيون، وتعمّ الإشاعة، وتطول المناظرات، وتقصر البصيرة، ويتشوّش الفكر".

يبدو أن توصيف ابن خلدون صالح لكل زمان ومكان، ويمكن تطبيقه، على سبيل المثال، على واقعنا السوري المحاط بغموض لا مثيل له، من دون أن تتسرّب أية حقيقة، أو وثيقة أو تقرير يفيد الناس بما سيجري في بلادهم وما سيطول حياتهم، إذ يترقب ملايين السوريين مآلات التغييرات السورية بشغف وانتظار، كونها تمسّهم وتلامس حياتهم بشكل مباشر.

في ظل هذه الفوضى والتعتيم التام، كثر المنجمون وضاربو الرمل والمتنبئون، ممن يقرأون الواقع السياسي والدولي ويرفدون متابعيهم بعشرات، بل لعلها مئات الرسائل اليومية، من دون أن يكون للحقيقة مكان مما ينبرون له، أو منطق يمكن أن يسكن قلوب المتابعين.

إن فقدان الصدقية هو السمة الطاغية لدى هؤلاء المتحدثين الرسميين، مضافًا إليها: فساد الخطاب، تضخم الأنا، تراجع الشعور الوطني، تفوق الوهم الماضوي المرتبط بالانتصارات التاريخية على الأعداء وربطها بالواقع الذي تعيشه أمة تعتاش في مأكلها ومشربها على النظرية الدينية والتاريخية، مع وعود مستنبطة من الكتب العتيقة بوجوب النصر والفتح والتقدم.

تجلّت مدافع آية الله أيامها بوصفها استعارةً لأداء جيوشٍ بعتادها وعديدها، وكان تأثيرها يتزايد وصولاً إلى اللحظة التي نزل فيها الخميني معلناً إمامته للثورة وإسقاط النظام وتوليه السلطة برفقة صحبه، حتى اليوم.

في ظل كل هذه الأجواء الكابوسية، تقدّم رجل بهي الطلعة عبر إحدى القنوات العربية، وبدأ بإطلاق تنبؤات بدت للوهلة الأولى أنها ضرب من ضروب الخيال والتنجيم، ولكن المتابعين صدموا لما تطابقت كلماته مع الواقع الذي نعيشه. هذا الرجل يدعى السيد محمد علي الحسيني، رجل دين وسياسي منشق عن حزب الله، كان على خلاف حاد وجوهري مع قادة هذا الحزب لسنوات، حتى انشق عنهم وأعلن براءته مما يرتكبون، وتوعّدهم بنيل العقاب والثبور.

وهكذا بدأت توقعات السيد الحسيني بزلزلة قلوب خصومه قبل أنصاره، مع جرأتها غير المسبوقة وخطابه الحاد الصارم، الجارح للأيديولوجيا المتكلسة في المشرق العربي، عبر خطاب رفض وأصر على رفض وصفه بالتنبؤات، بل هي، بحسبه، معلومات وتحليلات سياسية كان يتبعها بكلمات أصبحت تريندات في عالم السوشيال ميديا، مثل "نسمع ونرى"، أو "اجمع شملك"، و"اعهد عهدك".

في سنوات السبعينيات وقبل نجاح الثورة الإسلامية في إيران، على يد قائدها الخميني، كان الشعب الإيراني على موعد مع خطابات مسجلة للخميني، كان يرسلها من منفاه في العراق وفرنسا.

وكانت هذه الخطابات المسجلة على أشرطة كاسيت تدق قيعان قلوب الفقراء الإيرانيين الذين اعتقدوا أنه المخلّص الذي سينجيهم من فساد السلطة آنذاك، مثلهم مثل كل الشعوب التي ضاقت من الفساد وانتشار المحسوبيات وسوء الأحوال والفوضى. وهكذا صارت أشرطة الكاسيت التي يسجلها الخميني ويتم توزيعها في الداخل الإيراني بشكل سري تسمى بـ"مدافع آية الله"، إذ كان وقعها على نظام الشاه كوقعِ المدافع التي تدكّ حصون الشاه وقلاعه معنويًا، وتزلزل أنصاره، مقوّضة السلطة من تحته عبر إنشاء نقمة كبرى، وتغذية الاستياء الاقتصادي، وتعزيز فكرة الاضطهاد الديني من نظام علمانيٍّ (كافر).

تجلّت مدافع آية الله أيامها بوصفها استعارةً لأداء جيوشٍ بعتادها وعديدها، وكان تأثيرها يتزايد وصولاً إلى اللحظة التي نزل فيها الخميني معلناً إمامته للثورة وإسقاط النظام وتوليه السلطة برفقة صحبه، حتى اليوم.

ومع الثورة التكنولوجية وتقدم العصر، لم تتغير الشعوب المشرقية أبداً، وما زالت تنتظر من يتنبأ لها بواقعها ومستقبلها، وكأن المستقبل يُرسم عن طريق الكلام وليس عبر الأفعال. وها هو الحسيني يتصدّر واحدة من أهم القنوات العربية معلنًا مدافعه التي يدك بها قلوب خصومه، مطلقًا توقعاته وتهديداته لجميع من يخالفه، وسط ازدياد كبير في أعداد متابعيه الذين غابت عنهم الحقيقة وتعلقوا بحبال التبصير السياسي والوعود المبهمة ذات التأويل اللغوي المتباين.

غابت تماماً صدقية مؤسسات الدولة وشفافيتها، وغابت تصريحات الناطقين باسم الحكومات، وزوايا السياسة في الصحافة الحقيقة، وغابت وسائل الإعلام التي غرقت في الأيديولوجيا والتطبيل لانتصارات الوهم والخديعة.

ليس السيد الحسيني وحده من يطلق مدافعه، فهنالك العشرات ممن يعتلون المنابر السياسية في القنوات التلفزيونية، وتتناقل مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو قصيرة تظهر تبايناً في أقوالهم ووعودهم لجمهورهم المتعطش للحقيقة والخبر.

كل هذا إن دل على شيء، فهو يدل على حاجة الإنسان العربي والمشرقي عموماً إلى الكلمة، عطشه إلى التعبير، أو المشاركة في إدارة همومه وقضاياه، للاطمئنان على جزء من مستقبل أطفاله الغامض، حتى إن كان ذلك عبر التوقعات والتحليلات ولربما التبصير، في حين غابت تماماً صدقية مؤسسات الدولة وشفافيتها، وغابت تصريحات الناطقين باسم الحكومات، وزوايا السياسة في الصحافة الحقيقة، وغابت وسائل الإعلام التي غرقت في الأيديولوجيا والتطبيل لانتصارات الوهم والخديعة.

فإن كانت المعارك تشتعل على أرض الشرق الأوسط في عبث وحزن كبير، فإن المدافع الكلامية لم تهدأ أبداً، وتكاد أصواتها تصم آذان الناس وتشوّشهم بشكل كبير وكامل، فإن لم تك كل تلك الظواهر تدلّ على الانهيار والتردّي، فما الذي، بعد، يدلّ على ذلك يا بن خلدون؟