محمد الماغوط في وطن الجوع والخوف

2024.04.25 | 06:13 دمشق

آخر تحديث: 25.04.2024 | 06:13 دمشق

الماغوط
+A
حجم الخط
-A

يُقال إن أعظم كتاب يكتبه الكاتب هو حياته نفسها. قرأتُ فيما مضى معظم كتب محمد الماغوط لكن أكثر كتاب أثارني بخصوص الماغوط هو الكتاب الذي لم يكتبه بيده؛ بل كتاب أخيه عيسى الماغوط الذي قصّ فيه سيرة حياة محمد منذ أيام الطفولة في مدينة سلمية وحتى أيام المجد والشهرة في دمشق على أيام الأسدين الأب والابن.

عاش الماغوط طفولته في بيتٍ ريفيّ متداعٍ تتوسط باحته "كومة زبل كبيرة" ويختنق الأطفال فيه بدخان روث الحيوانات المنبعث في ليالي الشتاء الباردة. كانت الأسمال بالية وأثاث البيت مزرٍ، وملابس الأطفال من البالة على حدّ وصف عيسى الماغوط. كان والد محمد "مُرابِعاً" مع كل ما تحمله الكلمة من تعاسةٍ اجتماعية واقتصادية. 

كبر محمد وغادر إلى دمشق ليصبح كاتباً. لما طبع كتابه (غرفة بملايين الجدران) في دمشق كسب مبلغ ألف ليرة فوضعها في جيب أخيه عيسى، خيّط الجيب بالإبرة والخيط وأرسل الأخ إلى سلمية كي يسلّم المبلغ للوالدة. حفرت الوالدة في التراب ودفنت الألف ليرة للأيام القادمة، فلم يكن هناك في سوريا ما يؤشّر أن القادم أفضل من الماضي. لكن محمد الماغوط كان من ذلك النوع من العباقرة الذين ينقلب بمولدهم منطق الأشياء، فما إن مضت سنين قليلة على مغادرة مدينته سلمية حتى ارتدّ إليها صوته عن طريق الراديو، وتحلّق الأهالي للاستماع لابن مدينتهم في برنامج "ليل ونجوم ومحمد الماغوط." لقد صار الفتى مشهوراً ومهمّاً وعمّا قريب سيقبر الفقر في عائلته للأبد.

لما طبع كتابه (غرفة بملايين الجدران) في دمشق كسب مبلغ ألف ليرة فوضعها في جيب أخيه عيسى، خيّط الجيب بالإبرة والخيط وأرسل الأخ إلى سلمية كي يسلّم المبلغ للوالدة

في كتاب (محمد الماغوط: رسائل الجوع والخوف) يكشف لنا عيسى الماغوط ذلك التوق الطاغي عند أخيه محمد للثورة منذ نعومة أظافره. يصف عيسى أخاه محمداً فيقول:

"كان قاسياً على أخواته، وكلمته مسموعة وكانت أمي تعمل له حساباً في كلّ لحظة يوجد فيها فهو لم يكن موافقاً على الفقر، ولم يكن موافقاً على الرضوخ للفقر." وطالما سرق محمد الطفل أموال أخيه كي يتملّص من ذلّ الفقر. وطالما رفض وضع عائلته وتشاجر مع والدته بسبب تدني جودة الطعام. كان ينتهز فرصة يوم العيد ليذهب للمقابر لقراءة سورة الرحمن لنساءٍ أميّات عند قبور أحبابهنّ مقابل المال، ولكنه نادراً ما أكمل السورة فقد كان يتجاوز بعض الآيات ويخبر النساء أن السورة انتهت قبل أن يتمّ قراءتها للآخر. فالمهم هو تحصيل أكبر قدر من المال في أسرع وقتٍ ممكن. والعيد بالنهاية يومٌ واحدٌ ليس إلّا.

عندما انتقل محمد الماغوط إلى بيروت وصار معروفاً في الدوائر الأدبية هناك، دعته مذيعة لبنانية لتناول الغداء في بيت أهلها وكان الطعام لحماً مشوياً. أكل محمد وغلبه النعاس فأخذ قيلولة في بيت مضيفيه. وعندما استيقظ في المساء أكل لحماً من جديد ثم بات ليلته عندهم. وفي صباح اليوم التالي عاد وأكل من بقايا طعام الأمس من اللحم ثم غادر. من أكل اللحم ثلاث مرات كان محمد الطفل وليس محمد الكاتب المشهور.

كتب الماغوط يوماً:

"هذا القلم الذي يصنع الشعر واللذة يجب أن يأكل يا وطني."

وحتى بعد أن صار مشهوراً وغنياً بقي الفقر ماثلاً في حياة محمد الماغوط. ففي "سوريا حافظ الأسد" عملت زوجته سنية صالح في مؤسسة التبغ وسجّلت على بيتٍ في مشروع دمّر، لكنها ماتت ولم يكتمل بناؤه ولم تستلمه. أما القبر الذي اشترته في السيدة زينب فقد تسلّمته بسرعة. إذ دُفنت فيه بعد موتها بالسرطان أواسط الثمانينات.

لم تخلُ أشعار محمد الماغوط وكتاباته من النبوءات. فقد كان يعلم أن الثورة قادمة حتى وإن في زمانٍ لن يكون هو فيه. كتب في إحدى قصائده: "كان جواد الثورة... بانتظاري، ولكن عندما... حاولت النهوض لامتطائه أدركتني الشيخوخة."

وتنبأ الماغوط بالمسالخ البشرية التي أقامها الوريث بشار في سوريا فقد اعتبر يوماً "أن سلخ ما سُلخ من الوطن الكبير ليس إلا مقدمةً لسلخ البشر." وهو ما حصل في سجون الأسد التي تحولت إلى مسالخ بشرية كما كشف تقرير "المسلخ البشري" الذي أعدته منظمة العفو الدولية عن سوريا عام 2017.  

ومع أن حافظ الأسد ووريثه بشار قرّبا محمد الماغوط في حياته إلا أنه لم يأمن من ذلك القرب أبداً، بل بقي خائفاً من النظام ربما بسبب ذاك القرب بحدّ ذاته. فقد كان محمد الماغوط أكبر عقلاً من أن يخدعه النظام، وأصحا ضميراً من غوّار الطوشى كي ينحاز للظالم على حساب المظلومين. كتب أخوه عيسى يقول: "بعد أكثر من سبعين عاماً من الجوع والخوف، لا عطايا التكريمات والجوائز أشبعته، ولا حنوّ أهل الأمن عليه جعله آمناً."

اختصر محمد الماغوط الجوع بأنه كان يقضم خدوده من الداخل، والخوف عندما طلب من أمه أن تخبئه في كيسها الممتلئ بالخيطان والأزرار. كل ذلك مع أن محمد الماغوط لم يرَ صور الهولوكوست السوري التي سرّبها الشاهد قيصر، ولم يسمع عن السوريين الذين ابتلعتهم البحار، وصعقتهم الثلوج، وقنصتهم البنادق وهم يلوذون بالفرار من وطن محمد الماغوط؛ وطن الجوع والخوف.