تعكس لقاءات الحوار المكثفة بين القيادات التركية والعراقية وجود رغبة مشتركة باتجاه فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين. وتوحي التصريحات والمواقف الصادرة عن القيادات في الجانبين بأن الكثير من الملفات الخلافية العالقة تشهد ليونة وحلحلة باتجاه إيجابي يهدف لتسجيل اختراق سياسي نوعي في مسار العلاقات.
خلال 12 شهرا ماضية فقط كان هناك 7 لقاءات سياسية وعسكرية رفيعة، وكان لوزيري خارجية البلدين 3 لقاءات فيها. أرقام التبادل التجاري التي وصلت إلى 22 مليار دولار وهدف رفعها إلى 30 ملياراً تعبر عن هذه الرغبة والإرادة الجديدة المشتركة. الترجمة العملية الأبرز ستكون مع انطلاق مشروع الفاو التجاري الإنمائي الاستثماري العراقي بطابع إقليمي والدور التركي فيه. إنجازات لجان العمل المشتركة التي تم الاتفاق على تشكيلها خلال لقاءات بغداد وقبيل زيارة أردوغان المرتقبة لبغداد خطوة أخرى مهمة هنا.
أمنيا وعسكريا لم تتوقف عمليات أجهزة الأمن والاستخبارات التركية ضد عناصر حزب العمال واستهداف المواقع المشتركة لها ولمجموعات قسد في السليمانية وقنديل وشرق الفرات. الرسالة التركية تعني واشنطن بقدر ما تعني قيادات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
خلاصة ما قاله المتحدث باسم الخارجية التركية السفير أونجو كشلي قبل أيام هو أن أنقرة تناقش مصير عناصر حزب العمال ومجموعات قسد وملف المعتقلين من تنظيم داعش في شرق الفرات في وقت واحد مع بغداد وواشنطن. ما تبحثه أنقرة مع واشنطن حول خطط الحرب على الإرهاب هو نفسه تقريبا ما تناقشه مع القيادات العراقية في بغداد. من ينسحب أولا من العراق وسوريا القوات الأميركية أم التركية هو سؤال إيراني لن تحصل فيه طهران على الإجابة المطمئنة.
هل ستطلع أنقرة وبغداد الجانب الإيراني على نتائج محادثاتهما أم لا؟ وكيف ستتعامل طهران مع تقارب تركي عراقي ينسف حساباتها ومصالحها في شمال العراق؟
يبالغ الإعلامي التركي المعارض مراد يتكين حين يقول إن التفاهمات التركية العراقية وتحولها إلى تعاون استراتيجي سيقود لتحولات في التوازنات والمعادلات الإقليمية. هناك أطراف إقليمية كثيرة ستتضرر من تقارب وانفتاح بهذا الشكل وهي قد تتوحد فيما بينها لقطع الطريق عليه. هل ستطلع أنقرة وبغداد الجانب الإيراني على نتائج محادثاتهما أم لا؟ وكيف ستتعامل طهران مع تقارب تركي عراقي ينسف حساباتها ومصالحها في شمالي العراق؟
تصنيف مجلس الأمن القومي العراقي "حزب العمال الكردستاني" تنظيما محظورا يهدد أمن العراق خطوة قد ترضي أنقرة لكنها ستغضب البعض في السليمانية والقامشلي وقنديل. مراد قره يلان هو أول من سارع لمهاجمة الحكومة العراقية التي "تعمل على شرعنة الاحتلال عبر إنشاء نقاط تمركز مشتركة، داعيا بغداد لعدم الانجرار لألاعيب تركيا والدفاع عن سيادة العراق". تصعيد وخروقات أمنية وأعمال إرهابية جديدة تستهدف أكثر من مكان هو احتمال غير مستبعد كما حدث أكثر من مرة في السابق طالما أن حسابات البعض باتت في خطر.
يعقب مصطفى دستجي رئيس حزب "الوحدة الكبرى" اليميني القومي وحليف "تكتل الجمهور" الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، على نتائج زيارة الوفد التركي الرفيع لبغداد برئاسة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ومشاركة وزير الدفاع يشار غولر ورئيس الاستخبارات إبراهيم كالن، بقوله إن خطوة كبيرة أنجزت هناك وأنه تم التوافق بشأن اتفاقية أمنية مشتركة لمحاربة عناصر حزب العمال المتواجدة في شمالي العراق. لا شيء رسمي معلن بعد لكن المؤكد هو أن هناك أكثر من ملف ساخن بطابع سياسي وإنمائي واقتصادي ينتظر البلدين. هدف أنقرة هو إنهاء تواجد مجموعات حزب العمال في قنديل وسنجار وإسقاط ورقة قسد من يد قيادات السليمانية.
تطالب القيادات العراقية الجانب التركي بتفكيك وسحب العشرات من المواقع العسكرية التركية الثابتة والمتحركة المنتشرة في شمالي العراق منذ العام 2019 تحت غطاء عمليات المخلب -القفل. وترد أنقرة بأنها لا تبحث عن إقامة مناطق حدودية عازلة مع جيرانها بقدر ما تبحث عن فرص ووسائل التنسيق الأمني المشترك لسحب ورقة الإرهاب من يد البعض دون تمييز بين حزب العمال وروافده وداعش وامتداداته. ما يهم أنقرة هو حسم موضوع تواجد عناصر البي كي كي في شمالي العراق أكثر من الذهاب وراء إقامة منطقة أمنية لحماية حدودها.
لم تستجب بغداد حتى الآن لرغبة أنقرة بإعلان حزب العمال تنظيما إرهابيا، لكنها أعطت تركيا بعض ما تريد عندما قررت اعتباره مجموعات خارجة عن القانون تهدد العراق. قناعة تركية عراقية جديدة ظهرت إلى العلن مؤخرا وبدأت تترجم عمليا على الأرض تقول إن ملف الإرهاب عقبة أساسية في طريق التقارب بين البلدين وأنه لا بد من إسقاطها بأسرع ما يكون.
تجهد القيادات السياسية التركية والعراقية للوصول إلى تسويات وتفاهمات تنهي الكثير من الملفات الخلافية بطابع ثنائي وإقليمي، يتقدمها موضوع المياه والنفط والمعابر الحدودية والتواجد العسكري التركي في العراق، وتجاهل بغداد لما تفعله السليمانية على حساب السلطة المركزية عبر فتح أبوابها أمام الوافدين من القامشلي من المعابر العسكرية الخاصة بعلم واشنطن وموافقتها.
إذا لم تعقد قمة تركية إيرانية قريبة لبحث ما يجري فالسيناريو الأقرب هو أن التفاهمات ستكون تركية أميركية هذه المرة بعكس ما فعلته واشنطن قبل سنوات مع الجانب الإيراني.
ما تبحثه القيادات التركية في العاصمة العراقية فيه الكثير من الملفات التي نوقشت وتناقش بين الجانبين التركي والأميركي أيضا. تريد أنقرة التأكد من مواقف ونوايا الولايات المتحدة الأميركية في سياساتها السورية والعراقية الجديدة التي يدور الحديث عنها في هذه الأونة. لا تريد أن تكون المقايضات الأميركية الإيرانية في المناطق الحدودية الثلاث نسخة طبق الأصل عما فعلته واشنطن قبل عقد وهي تساوم إيران على الجبهتين: تهدئة نووية إيرانية مقابل إدارة وجه أميركي عما تفعله إيران في سوريا والعراق وفيه الكثير من الارتدادات السلبية على حساباتها ومصالحها هي. مشكلة تركيا هي مع مجموعات حزب العمال الكردستاني لكنها مع واشنطن وطهران وأدواتهما المحلية أيضاً التي تلتقي مصالحها وتتوحد ضد أنقرة وبغداد معا.
ما لن تقبل به أنقرة كذلك هو مواصلة بافل طالباني لسياسة الإستقواء بالجزرة الأميركية والعصا الإيرانية لإنشاء جغرافيا سياسية جديدة على خط شمالي سوريا والعراق
تريد أنقرة القضاء على مجموعات حزب العمال الكردستاني وتريد إنهاء تواجد هذه العناصر في شمال العراق، لكنها لا تريد أن يتم ذلك في إطار إبعادها عن الحدود التركية العراقية وإبقاء الملف بيد إيران وغيرها كورقة أمنية وسياسية تلعب ضدها عند اللزوم. هي لا تريد أيضا أن يكون البديل عن تواجد هذه المجموعات انتشار الميليشيات الشيعية المحسوبة على طهران على حدودها العراقية كي لا تتحول تلك الجغرافيا إلى ساحة جنوب لبنان آخر يبقي المناطق الحدودية التركية العراقية دائمة السخونة والتوتر. الهدف التركي الثالث في حوار أنقرة مع بغداد اليوم هو حسم موضوع السليمانية التي تناور على الحبلين الأميركي والإيراني لمواجهة النفوذ التركي ولإضعاف شريكها في أربيل سياسيا وحزبيا.
ما لن تقبل به أنقرة كذلك هو مواصلة بافل طالباني لسياسة الإستقواء بالجزرة الأميركية والعصا الإيرانية لإنشاء جغرافيا سياسية جديدة على خط شمالي سوريا والعراق عبر توحيد عقائدي كردي يجمع السليمانية والقامشلي تحت علم ثلاثي مشترك يضم حزب الاتحاد الوطني وعناصر حزب العمال ومجموعات قوات سوريا الديمقراطية. لا تريد أنقرة أن تخرج من تحت دلف سيناريو إيراني من هذا النوع لتقع تحت مزراب سيناريو إيراني آخر يقوم على قبولها لانتشار الميليشيات العراقية المحسوبة على إيران كخيار أهون الشرين.
تلوح أنقرة بعملية عسكرية برية جديدة في قنديل ضد بقايا حزب العمال هناك. لكنها تريد إشراك بغداد في حراكها العسكري هذه المرة. فهل تنفتح بغداد على هذا الطلب التركي بعدما تجاهلت مطلب إعلان حزب العمال مجموعات إرهابية؟ سترحب أنقرة حتما إذا ما سمعنا القيادات العراقية تعلن أنها جاهزة لتطهير أراضيها بنفسها من حزب العمال. لكنها لن تقبل أن يتم ذلك بهدف تسليم هذه المناطق للميليشيات الإيرانية التي تنسق مع السليمانية بعدما التقت مصالحهما في مواجهة أنقرة وأربيل. الكرة هنا هي في ملعب واشنطن التي بدأت مفاوضات سياسية وأمنية وإستراتيجية شاملة مع أنقرة سبقها خدمات وتسويات سريعة على خط التوسعة الأطلسية وصفقة أف – 16.