حتى نضع الكلام في نصابه لا بد من القول: ثمة ثلاثة أطوار للوجود الإنساني:
الطبيعي: ترتبط الإرادة بالحاجات الفيزيولوجية: كل ما أحتاجه هو حقّ لي.
الطور الاجتماعي "المدني": يضمن تحقيق تلك الحاجات لكن من خلال تفاهم بين الأفراد، بحيث يحقق كل فرد من أعضاء المجتمع حاجاته مع مراعاة حقوق الآخرين، ولتحقيق المساواة في الحريّة والكرامة جاءت وثيقة "العقد الاجتماعي" لتوثيق التوافق.
الطور السّياسي: ومحور العمليّة السياسيّة هو التنافس بين الأحزاب لتحقيق الحقوق المدنيّة، لذلك لا يجد المرء بوناً واسعاً بين القضايا السياسيّة والقضايا المدنيّة في مجتمع ليبرالي ديمقراطي كبريطانيا مثلا، فيما يجد ذلك عند سياسيّينا معارضات وأنظمة.
في قراءة أخرى: يضمّن العقد الاجتماعي اعترافا متبادلا بمصالح حيويّة نابعة من حريّة الإنسان المساوي في الكرامة لكلّ إنسان آخر داخل العقد الاجتماعي، ولتحديد نوعيّة المصالح المدنيّة التي يمكن التساوي بشأنها كان لابدّ من الفصل بين السلطتين:
الروحيّة: تلك التي لا يمكن تعيين قضاياها فضلا عن التفاوض بشأنها!
المدنيّة: تلك التي يمكن تعيينها والتفاوض حولها لتحقيقها بجودة أعلى وبوسائل غير عنفيّة، فخرج العسكر أيضا من تصنيف "المدنيّة".
إذن فالفضاء المدني يستثني العسكرة لأنها وسيلة عنفيّة، ويستثني الأيدلوجيا لأنها تطرح قضايا لا يمكن تعيينها، في حين أن العمل السياسي هو جزء من الفضاء المدني.
كان يكفي صمت العالم مدة سنة يرتكب خلالها النظام أبشع المجازر، وتسهّل الدول المتورطة إرسال متطرفيها وشحنات السلاح غير المنضبط حتى تنهار التجربة المدنيّة الحرّة أمام: الإرهاب والعسكرة!
عام 2011 لم يتمكن السوريّون من إقناع الأجهزة الأمنيّة باحترام حريّتهم وكرامتهم، فثار السوريون دفاعاً عن مصالحهم المشروعة ولم يكن ينقص تلك السّيرورة المنطقيّة إلا تمثيلها في جسم سياسي لا ينحصر دوره على تقديم خدمات الماء والكهرباء والتعليم.. فقط كأي مجلس محلّي، ولا ينحصر دوره أيضا في الحديث عن القضايا المجرّدة كالأيديولوجيين والنظام والائتلاف السوري المعارض لاحقاً، بل جسد سياسي مدني.
كان يكفي صمت العالم مدة سنة يرتكب خلالها النظام أبشع المجازر، وتسهّل الدول المتورطة إرسال متطرفيها وشحنات السلاح غير المنضبط حتى تنهار التجربة المدنيّة الحرّة أمام: الإرهاب والعسكرة!
من المنطقي أن لا يصدر القرار الأممي "2254" عام 2015 عن إرادتنا نحن السوريين بل عن سيادة الدول رغم أنّ القرار تضمن اعترافاً بـ "السوريين" من دون تعيينهم بطبيعة الحال؛ فتنافس النظام والدول الداعمة لمصالحها عبره مع المعارضة والدول الداعمة لمصالحها على نيل الشرعية لا من السوريين غير المعيّنين -اللهم إلا كأفراد متطرفة أو ضحايا- بل من القرار الأممي، وظل الحديث عن "إرادة السوريين بأنفسهم" تركيباً يُستخدم بسياقات لا تتأثر بعدد الموتى أو المهجّرين!
لاحقا قسّم المبعوث الدولي "ديمستورا" القرار إلى أربع سلال، وتابع "بيدرسون" العمل على "سلّة الدستور" والأخير ليس صفقة سياسيّة بين الدول يمكن أن يضمنها عديمو الشرعيّة -النظام والمعارضة- بل هو "عقد اجتماعي مدني" أساسا!
بدأ مسار أستانا عام 2017 ودفعت مصالح الدول الداعمة للمسار النظام والمعارضة للقاء في سوتشي 2018 حيث اقترح المبعوث الأممي إضافة "وفد المجتمع المدني" إلى طرفي التفاوض؛ فسمّت المعارضة غير المرتبطة بالمجتمع السوري "وفدها المدني" وسمّى النظام و"فده المحلّي"؛ فالنظام ادّعى ولا يزال أنه ممثل سياسي شرعي للمجتمع المدني السّوري!
المراقب لعمل الوفدين يمكنه ملاحظة أن وفد المعارضة ليس لديه مشكلة باتهام المجتمع المحلّي الثّائر بكل ما هو غير مدني بذريعة الحياد فالوفد منفصل عن سيرورة المجتمع؛ فيما وفد النظام مثله أيضا يؤكّد اتهام المجتمع المحلي الثائر بالإرهاب لأنّ قضية وفد النظام واضحة: الدفاع عن النظام!
في كتابه "أين الخطأ" ادّعى برنارد لويس أحد أهم منظري الشرق الأوسط الجديد أنّنا في الشرق -السوريين ضمنا- لا نعي الحريّة كمفهوم سياسي للدفاع عن المصالح المدنيّة ومن ثمّ لسنا مؤهّلين لبناء مجتمع مدنيّ ولا "قانون دستوري" ويبدو الكلام منطقيّا -إذا أسقطناه على مجتمع يرمي خصمه السّياسي بتهم دينيّة عقديّة- من دون الالتفات إلى أنّ هذا المجتمع تعرض لإبادة لا لخصومة سياسيّة!
لكن فكرة الالتفاف على "الحريّة السياسيّة" للسوري الثائر على وجه الخصوص يمكن ملاحظتها منذ وصول ما يُسمّى "الدعم الدولي" للثورة السّوريّة في سنواتها الأولى؛ إذ إنّ مفهوم المجتمع المدني المستحق للدعم كان يعني: "المجالس المحليّة" لا الثوريّة؛ و"منظمات المجتمع المدني" كانت تعني: "الهيئات الإغاثيّة" وهذي المغالطة سيدفع ثمنها النشاط المدني في الثورة السوريّة!
ماتت المحاولة المدنيّة السوريّة خنقا بين منع وصول الدعم إليها بذريعة عدم مدنيّتها حتى تعترف بالائتلاف ممثلا سياسيّا، وبين وصول الدعم العسكري العبثي إلى يد قوى الأمر الواقع غير المدنيّة سواء لعلة العسكرة أو الإرهاب!
لم يدم إلا وجه الله والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني التي سيجتمع 150 من أعضائها يوم 6 الشهر الجاري في "معهد العالم العربي بباريس" لإطلاق مبادرة "مدنيّة" استنادا إلى القرار 2254.
وبحسب البيان الافتتاحي فإنّ "مدنيّة": "مبادرة سورية مستقلة عن أي نفوذ سياسي أجنبي تهدف إلى حماية الفضاء المدني السوري وتعزيز فاعليته" أمّا مطالبة "المنظمات" بلعب دور سياسيّ فلا تعني: "رغبة في الحلول محل الأجسام السورية المنخرطة في العملية السياسية.. بل تأتي ضمن رفد جهودها"!
وذكر البيان أنّ: "دور الفضاء المدني السوري لا ينحصر في خانة مزوّدي الخدمات ومنفذي المشاريع بل يتجاوز ذلك للتعبير السّياسي من دون أن يغادر موقعه في العمل المدني" وهذا الكلام دقيق للغاية لولا أنّه كان دقيقا أيضا منذ مئة سنة على الأقل؛ فلماذا كان هذا الوعي غائبا عن داعمي "منظمات المجتمع المدني" وأعضائها يوم كانت هيئات إغاثيّة تتلقى دعما من الخارج وعبر "الأجسام السياسيّة المنخرطة اليوم بالعمليّة السّياسيّة" مقابل منحها الشرعيّة السياسيّة!
عام 2013 أنشأت المعارضة السوريّة "وحدة دعم المجالس المحلّيّة" لدعم مجالس خدميّة لا تتعاطى السّياسة؛ فأبدعت الوحدة بإنشاء مجلس محليّ بموازاة كل مجلس ثوري ما أنتج أزمة اجتماعيّة يمكن وصفها بـ "فتنة محلي - ثوري" وفي الوقت الذي سرق الائتلاف تمثيل الداخل سياسيّاً كان الإرهاب يتغلغل في مجتمعاتنا ويستثمر في مثل هذه الصراعات!
المنظمات العاملة في فضاء الثورة السوريّة كانت -وبذريعة ضمان حيادية العاملين فيها- تستقطب ناشطي الثورة المدنيّة وتفرض عليهم أن لا يكونوا منخرطين في أي نشاط "ثوري- سياسي"!
ليست وحدة دعم المجالس وحدها من عبر عن وعي تناقض المدني مع الثوري بذريعة أن الثوري "إرهاب+ سلاح" بل جملة المنظمات العاملة في فضاء الثورة السوريّة كانت -وبذريعة ضمان حيادية العاملين فيها- تستقطب ناشطي الثورة المدنيّة وتفرض عليهم أن لا يكونوا منخرطين في أي نشاط "ثوري- سياسي"!
ثمة موقف من فكرة "رفد للأجسام السياسيّة" المنخرطة بالحل السياسي إذ لعلّ "المدنيّة" تفترض عدم شرعيّة تلك الأجسام السياسيّة غير الحاصلة على شرعيّة التمثيل السّياسي؛ لا رفدها!
قد يكون الداعون إلى مبادرة "مدنيّة" مستقلين بالفعل عن الدعم ومن ثمّ يكون حديثهم عن الاستقلال والاستعانة برأس مال رجال أعمال سوريين واقعياً، والسوريون بحاجة إلى مثل هذا بالفعل، لكن المنظمات ليست مستقلة على أية حال.
من دون شك؛ لا ينبغي مهاجمة مبادرة مدنيّة لأنّ أشخاصا كانوا عمّا قريب لا يعترفون بالمدنيّة هم اليوم يشاركون نيابة عن مجتمع مدني، لكنّ بناء مجتمع مدني لا يتناقض فيه العمل السياسي مع العمل المدني ينبغي أن يُلاحظ وبدقّة:
إذا كان النظام والمعارضة معا يمكنهم تغييب المجتمع السّوري وشرعنة عملهم السّياسي بالاستناد إلى قرار دولي فحسب؛ فإن المجتمع المدني لا ينبغي أن يبحث عن شرعيّة عمله في القرار الدولي بل بتبني قضايا المجتمع لملء ذلك القرار بمضامينه السوريّة.