في الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل، استغربنا أن تلعب بعض الدول العربية دوراً في حماية إسرائيل، بيد أن هذا الخبر لم يحظ بكبير اهتمام، على الرغم من جاذبيته الهائلة، والأغرب من كل هذا عدم ظهور احتجاج شعبي ضد هذا التطور الذي لم يتوقعه أحد، ولكن ما الذي يعنيه هذا؟
إن التحالف العسكري الخاص بين إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والأردن والسعودية منع الهجوم الإيراني، بيد أن تورط السعودية التي تعتبر حامية للحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وتورط الأردن الذي يعد حامياً للمسجد الأقصى في القدس يحمل أهمية رمزية كبيرة، إذ لم يكن ليخطر على بال أحد هذا التعاون العسكري المباشر مع إسرائيل من قبل الأردن والسعودية قبل عقد من الزمان، ولكن الآن أعلنت هاتان الدولتان أمام الملأ عن وجود هذا التحالف.
أصبحت حسابات بعض الدول العربية واضحة أكثر من ذي قبل، إذ أصبحت ترى بأن مستقبلها يكمن في الانحياز لإسرائيل مع السعي لتهميش القضية الفلسطينية.
في ابتعاد كبير عن الماضي، لم تتعرض السعودية والأردن لانتقادات شعبية من "الشارع العربي" لتعاونهما مع إسرائيل، إذ في السابق، حاولت الدول العربية أن تخفي تعاملاتها السرية مع إسرائيل، وهذا ما حدث عندما تعرضت غزة لهجوم مكثف على يد القوات الإسرائيلية، بما أن أي تعاون مع إسرائيل لم يكن مقبولاً بأي شكل من الأشكال، ولكن الأمور تغيرت، إذ صار الأردن الذي تعيش فيه جالية فلسطينية كبيرة يعترف صراحة بتعاونه عسكرياً مع إسرائيل، وهنا لابد من القول بأن الأردن لم يقم بإجراء مباشر ليحمي السوريين من استبداد الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً، في حين نجد بأن هذا البلد قدم دعماً كبيراً لإسرائيل عندما تعرضت لهجوم إيراني مباشر.
أصبحت حسابات بعض الدول العربية واضحة أكثر من ذي قبل، إذ أصبحت ترى بأن مستقبلها يكمن في الانحياز لإسرائيل مع السعي لتهميش القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من أن سعي هذه الدول لتحقيق هدفها قد تراجع منذ أحداث السابع من تشرين الأول، قدم لهم الهجوم الإيراني الأخير فرصة لمواصلة جهودهم، إذ لم يسمح الهجوم لتلك الدول بإبداء استعدادها لحماية إسرائيل فحسب، بل أيضاً قدم لها ذريعة لتفسر سبب قيامها بذلك أمام شعوبها في الداخل.
لا يحب الشعب العربي إيران، فقد تحطمت صورتها بسبب مشكلات طائفية وللدور الذي لعبته في العراق وسوريا واليمن منذ عام 2011، وماتزال الشعوب العربية تتذكر الفظائع الإيرانية في العراق وسوريا، ومقابل الاستبداد الإسرائيلي في غزة، اعتبرت إيران بمثابة تهديد متزايد، في حين لم ينظر أحد لإسرائيل تلك النظرة، أي أن هنالك شيئاً من الدعم الشعبي من داخل الدول العربية لفكرة مساعدة إسرائيل ضد إيران، أما من يعارض تلك الفكرة فلا يمكنه حشد الناس ودفعهم ليقوموا بشيء ما، بما أن فشل الربيع العربي الذي انطلق عام 2011 ما يزال ماثلاً في أذهان غالبية العرب الذين باتوا يعتبرونه بمثابة تجربة سلبية.
لقد استغلت تلك الدول العربية علاقتها مع إسرائيل لتكسب تأييداً أميركياً لنموذج حكمها الجديد ولتوظف التقانة الإسرائيلية في مجال مراقبة مواطنيها بحذر أكبر، ويمكن القول إن سيطرة الدولة على الفرد قد تراجعت.
اتخذت معظم الدول العربية خطوات لتطوير أنظمتها السياسية وإصلاحها مع إعطاء الأولوية للاستقرار والأمن في البلد، وفي الوقت الذي تقدمت فيه بإصلاحات هدفت لمنح الحريات الفردية للمواطنين، فرضت قيوداً على الحريات السياسية والعملية الديمقراطية. فكان الربيع العربي في عام 2011 نقطة تحول عندما أصبحت حكومات دول كثيرة تنظر إلى أي انتشار محتمل للانتخابات الشعبية بمثابة تهديد.
ورداً على ذلك، سعت بعض الدول العربية لتحقيق حالة توازن بين الحريات الفردية والاستقرار السياسي، في حين استثمرت دول أخرى في مجال الإصلاحات الاقتصادية مثل رؤية السعودية 2030.
تحولت فكرة إقامة علاقات طيبة مع إسرائيل إلى شرط أساسي لتحقيق هذا النموذج الجديد من الحوكمة والذي يهدف لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، وتوفير خيارات حياة عصرية أمام المواطنين مع الاحتفاظ بالحكم الاستبدادي في الوقت ذاته. ولقد استغلت تلك الدول العربية علاقتها مع إسرائيل لتكسب تأييداً أميركياً لنموذج حكمها الجديد ولتوظف التقانة الإسرائيلية في مجال مراقبة مواطنيها بحذر أكبر، ويمكن القول إن سيطرة الدولة على الفرد قد تراجعت.
تدرك بعض الدول العربية بأن الوضع الحالي لغزة لا يعتبر ظرفاً مناسباً، لكنه لن يعيق انحيازها لإسرائيل، بل سيبطئ وتيرته فحسب.
أصبحت الاتفاقيات الإبراهيمية منصة مهمة لهذه النزعة الجيوسياسية من انحياز بعض الدول العربية لإسرائيل، لكنها لم تتحول إلى نقطة بداية ولا خط ينبئ ببلوغ النهاية، إذ من منظور جيوسياسي، تدرك هذه الدول العربية بأن الوضع الحالي لغزة لا يعتبر ظرفاً مناسباً، لكنه لن يعيق انحيازها لإسرائيل، بل سيبطئ وتيرته فحسب.
كما أدركت بعض الدول العربية بأن انحيازها لإسرائيل شرط أساسي لتحقيق أمنها، وقد ذكرهم بذلك الهجوم الإيراني الأخير، إذ في حال وجهت إيران هجومها لإحدى الدول العربية، فإن عواقب ذلك ستكون كارثية، ولهذا، من المرجح لتلك الدول العربية أن تدعم الاستراتيجية الإقليمية الشاملة المعادية لإيران خلال فترة قريبة، كما من المحتمل أنها تخطط لتعزيز إمكاناتها الدفاعية عبر الاستعانة بالتقانة الأميركية الموثوقة ورفد الجهود الأميركية والإسرائيلية الساعية لتحجيم إيران وإضعافها. بيد أن هذه الدول العربية ما تزال حذرة وتخشى من تجاوز الخط وإشعال فتيل حرب إقليمية جديدة، لأنها تدرك بأن قيام نزاع كهذا لابد أن يكون مدمراً إلى أبعد الحدود.
لدى إيران دوافع كثيرة لشن هجوم ضد إسرائيل، بيد أن أحد عواقبه غير المقصودة يمكن أن تتمثل بتشكيل تحالف إقليمي جديد ضد إيران، فالتعاون العسكري بين إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والأردن والسعودية قد يكون فاتحة لما سيأتي لاحقاً، ويبدو بأن الشارع استقبل الأمر بكل رحابة صدر، أو على الأقل لم يتسبب ذلك باحتجاج شعبي عارم، وهذا يكفي بالنسبة لحكومات الدول العربية المعنية.