بعد فترة من القراءة عن تاريخ الدولة العثمانية في سوريا، وآثارها الباقية التي ما نزال إلى اليوم نشاهدها في بلدان مختلفة، ومنها سوريا التي يفتخر أبناؤها بكثير من معالم تلك الفترة، وكانوا قبل عام 2011 يذهبون إليها سائحين متفرجين، وأحياناً مبهورين، وكذلك كان السياح الأجانب الذين يقصدون دمشق من كل أقطار الدنيا، للوقوف على ميزات العمران في تلك الدولة وما سبقها، من هنا كان لا بد من التفكير في الهوية العمرانية لـ"سوريا الأسد".
فبعد أن يزور قاصدو دمشق المسجد الأموي الكبير، الذي يعتبر رابع أهم مسجد في العالم الإسلامي بعد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة والمسجد الأقصى في القدس، والمسجد الأقدم في العالم الذي يحتفظ بهيكله الأصلي منذ بنائه قبل 13 قرناً، لا بد لهم وأن يمروا بسوق الحميدية والبزورية وسوق مدحت باشا وغيرهم، وسيذهبون كي يتفرجوا على خان أسعد باشا وقصر العظم، وربما التكية السليمانية، وغيرها كثير من المساجد والتكايا ذات الهوية العمرانية شبه الموحدة، والتي تحمل اسم الولاة العثمانيين الذين حكموا دمشق، وتركوا ما يخلد أسماءهم فيها، سواء كان قصراً أو مسجداً أو تكية أو قيسارية أو حتى خان.
دفعني ما سبق للتقصي حول الهوية العمرانية لسوريا الحديثة ..سوريا التي يحكمها آل الأسد، أو ما الذي يمكن للسائح أن يذهب لرؤيته من مفرزات سوريا الأسد العمرانية والحضارية، لكن بالكاد عثرتُ على ما يذكر، رغم أنهم قد لقّنونا كثيرا عن منجزات الحركة التصحيحية العمرانية في الكتب المدرسية والبرامج التلفزيونية والمناسبات والأعياد.
هل استطاع نظام الأسد خلق هوية بصرية للحركة العمرانية في سوريا؟ بكل بساطة لا.. فلو بدأنا بالمساجد فكل مسجد له شكل خاص وتصميم مختلف عن الآخر، إن لم يكن ما يجمع بينها هو الفوضوية البعيدة عن التنظيم الذي يمكن أن يخلق هوية بصرية، فالمساجد التي بنيت على الطريقة العثمانية التي اقترحها سنان معمار باشا، مازال الأتراك محافظين عليها إلى اليوم، والمساجد التي بناها المماليك مميزة بطرازها العمراني عما بناه العثمانيون، ولكن العدد الكبير من المساجد الذي تم بناؤه بعد السبعينات كلها من دون هوية مشتركة، وكل مهندس يصمم على مزاجه، آخذاً سمات من هنا ليخلطها بطرز من هناك.
ذات مرة كنا في دورة تدريبية صحفية في دمشق وكان معنا طلاب عرب، وبعد أن زار ضيوفنا المدينة واطلعوا على معالمها، كانت إقامتهم في إحدى ضواحي دمشق القريبة، فبادرني أحد الطلاب الأردنيين، هل هذه هي دمشق العريقة التي لا يمل الناس، ولا حتى التاريخ من الحديث عنها ؟! قلت له لماذا؟ قال لي: يا رجل معظمها يشبه المخيمات..!
حينذاك صعقت من هكذا كلام، واعتبرت الزميل متحاملاً، لأنني كنت من ضحايا الماكينة الإعلامية الأسدية، التي كانت تصور سوريا على أنها جنة الدنيا، وهي أرقى من كل الدول التي حولها.
تسعة وثلاثون حياً عشوائياً يحيط بدمشق إحاطة القيد بالمعصم، كلها بنيت على عجل، وكان هم نظام البعث من خلالها تشكيل حاضنة شعبية له في هذه الأحياء
تسعة وثلاثون حياً عشوائياً يحيط بدمشق إحاطة القيد بالمعصم، كلها بنيت على عجل، وكان هم نظام البعث من خلالها تشكيل حاضنة شعبية له في هذه الأحياء، التي تم الاستيلاء على أراضيها عنوة، والأهم من هذا أنه تم عبر هذه الأحياء ترييف المدينة، كما يقول الباحث الفرنسي ميشيل سورا في كتابه "سوريا المتوحشة" والذي دفع حياته ثمناً لهذا الكتاب.
طبعاً تم بناء عدة أحياء منظمة وجديدة في دمشق لتكون مركزاً لرجال السلطة الحاكمة، كما في حي المزة، وبعد ذلك تم بناء حي تنظيم كفرسوسة الراقي، لكبار رجالات الدولة من محدثي النعمة ورجال الأعمال المتعاونين معهم.
رغم أنه بني كثير من المدارس، ولكن بقي الطلاب مكدسين في الصفوف، من 35 إلى 50 طالباً في الشعبة الواحدة، ولم يكن عدد المدارس يتماشى مع الزيادة السكانية، ليس هذا موضوعنا، ولكن تصميم المدارس ذات الحيطان العالية والمسيجة بالأسلاك الشائكة، هو ذات تصميم السجون، فلا يختلف شكل المدارس عن السجون في سوريا الأسد، بل إن الجهة المنفذة واحدة هي مؤسسة الإسكان العسكري، التي بنت كذلك كثيرا من الجمعيات مسبقة الصنع لموظفي الدولة وعسكرييها، وما يجمع بينها هو القبح وفقدان المعايير الفنية، طبعاً وسوريا تعاني دائماً من مشكلة الإسكان.
معظم الدوارات والساحات الطُرُقية في دمشق هي من تصميم الفرنسيين أثناء احتلالهم لسوريا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث بقيت شوارع العاصمة الحالية على ما هي عليه، فلم يتم توسيعها لتستوعب الزيادة الكبيرة في عدد السيارات، حتى المباني ذات الطراز المعماري الكلاسيكي الأوروبي من بناها هم برجوازيو المدن المتأثرين بالطرازات الأوروبية، ومعظم هذا تم قبل انقلاب 8 من آذار 1963. أذكر أن نفق ساحة الأمويين الذي لا يتجاوز طوله المئة متر استمر العمل لإنجازه سنوات، وبعد انتهوا منه اكتشفوا أن هناك خطأً في التنفيذ!
قصر الشعب، المحرَّم على الشعب ليس دخوله وحسب، بل حتى النظر أو الإشارة إليه بأصابعهم، بنته شركات الراحل رفيق الحريري كنوع من الرشوة السياسية لحافظ الأسد، ويُقال إن دار الأوبرا، التي سموها "دار الأسد للثقافة والفنون" هي كذلك من تنفيذ شركات الحريري.
الملاعب والمجمعات الرياضية التي على قلتها أصبح اسم معظمها "الأسد" فهناك مسبح الأسد وملعب الأسد وساحة الأسد.. ورغم أنها بنيت بمساعدات دولية، إلا أن ما يجمع بين معظمها هو القبح، فضلاً عن فقدان المعايير الجمالية، نتيجة الفساد الكبير وسرقة المال العام.
يكثر إعلام البعث وأدبياته من الحديث عن تخلف الدولة العثمانية وأثر ذلك السلبي على سوريا، ورغم أن فترات استقرار الولاة العثمانيين ليست كبيرة، ولكنهم تركوا لنا إرثاً معمارياً على الأقل يمكن مشاهدته إلى اليوم، وسوريا الأسد التي عاشت استقراراً سياسيا فعلياً منذ عام 1970 حتى 2011 لا يمكن بسهولة العثور على صرح عمراني يمكن أن يصبح مقصداً للسياح والزائرين، أو يستطيع أن يخلق هوية بصرية محددة لسوريا.