بعيداً عن السياسة وتجاذباتها، تبدو العاصمة السورية دمشق هذه الأيام في حالة يُرثى لها، وبشكل غير مسبوق؛ قطعان رجال الأعمال الفاسدين يمزّقون جسد المدينة، علامات التصحّر والانعزال ظاهرة لعيانِ سكّان عاصمة الأمويين الممنوعين من المشاركة في تقرير مصيرهم ومصير المكان الذين فيه يعيشون، صفقات بمليارات الدولارات تجري هناك، تباع فيها الأراضي والمحاضر السكنية وكأنها حفلة صامتة لاقتسام الشام، تخدير بالشعارات مرّة، وبالتهديدات في أُخرى، حتى باتت دمشق التي لا بواكي لها كما لو أنها مخنوقة الصوت، مكبّلة اليدين، فيما البراغيث تنهش جسدها المتعب بالجوع والقمع.
الأخبار المتواترة من هناك تكشف أن حديقتي الجاحظ والسبكي (من أكبر حدائق العاصمة) مهدّدتان بالإزالة بحجة إقامة مرآب للسيارات. تأسست حديقة السبكي في سنة 1950 على مساحة تقدر بعشرين دونماً، وهي تحتوي على أشجار تزيد أعمارها على 75 عاماً. حديقة الجاحظ تأسست، بدورها، في الفترة نفسها، وينتصب عند بابها تمثال من الحجر الأسود للعلّامة المؤلف أبو عثمان بن بحر الجاحظ.
حدائق المدينة الحزينة (بما في ذلك، طبعاً، حديقتا تشرين والتجارة) هي المتنفسات الوحيدة المتبقّية لأبناء الشام، حيث المساحات الخضراء مقصد الناس في بلد تقلّصت فيه تلك المساحات إلى ما قد يصل إلى الصفر البائس المسربل بالقحط والقنوط. ففي مدينة دمشق، على سبيل المثال، لا تتجاوز نسبة المسطّحات الخضراء واحد ونصف الواحد بالمئة من مجموع مساحة المدينة.
في بلد لا محاسبة فيه، لا أهلية ولا إعلامية ولا ثقافية، ولا ضمانات على نجاح مشروع، أو استمراريته، أو حتى نتائجه، فإن رائحة الأطماع تزكم الأنوف.
ورغم قتامة المشهد في المدن السورية، ودمشق خصوصاً، وجد سكان المدينة في هذه الرئات الخضراء متنفساً ممكناً وغير مكلفٍ يرتاده الشباب والصبايا والأسر وأطفالهم، هروباً من إسمنت أيامهم، ليأتي رأس المال الجاحد ورجال الأعمال الأوليغارشيين ويسرقوا منهم، بالتنسيق مع محافظ العاصمة، رئة أنفاسهم. ولن يمضي زمن طويل حتى يرى الأهالي الحدائق الغنّاء كراجات طابقية إسمنتية عديمة الجمال داكنة التجهم.
في بلد لا محاسبة فيه، لا أهلية ولا إعلامية ولا ثقافية، ولا ضمانات على نجاح مشروع، أو استمراريته، أو حتى نتائجه، فإن رائحة الأطماع تزكم الأنوف. ونسأل هنا: هل أنجزت أية جهة كانت دراسة حول جدوى المشروع؟ ولمصلحة من سيجري تدمير حدائق لصالح إنشاء كراجات طابقية للسيارات مما يزيد التلوث والانبعاثات الكربونية؟ أليس الأكثر منطقية البحث عن حلٍّ للسيارات التي تحتلّ المدينة وتلوّث هواءها؟ وماذا بخصوص أفكار حول النقل الجماعي (الكهربائي على وجه الخصوص) تغني الناس عن استخدام السيارات الباعثة للتلوث في قلب المدينة، وبالتالي حينها يمكننا الاستغناء عن المرآب الطابقي؟
أما السؤال الأكثر إلحاحاً ومأساوية، فهو: ما الضامن الحقيقي الفعلي أن يُنجز المشروع بعد أن تقتلع أشجار الحديقتيْن من جذورها، كما اُقْتلِع كثير من السوريين من جذورهم؟ ما الضامن لأن لا يتحوّل المشروع إلى (برامكة) جديد مجرّد كومة من خراب؟ وإلى محطة حجاز جديدة؟ ومدينة معرض جديدة؟ فمدينة المعرض القديمة أزيلت مبانيها وتحولت إلى مرآب مؤقت للسيارات منذ عقد على الأقل، وكذلك الأمر مع محطة الحجاز التي أزيلت سككها المعدنية وبقيت تبث قبحها منذ عقد ونصف، بعد توقّف الأعمال بسبب خوف القطاع الخاص من ضخ الأموال في بلد تتعرض لأزمة سياسية خانقة.
إن جرأة محافظة دمشق في اتخاذ القرارات ثم مسحها بجرّة قلم (كما مسح وزير خارجية سوري ذات جرّة قلم أوروبا عن الخريطة) هي جرأة غير مسبوقة، مرعبة، مروعة، في ظل فساد إداريٍّ وماليٍّ غير مسبوق بدوره.
تفيد أنباء بأن إيران تشتري أراضي وعقارات بالجملة في منطقة دمشق القديمة وفي جنوب دمشق.
يجري كل هذا بحق شامنا وسط غياب الشفافية، وانعدام المحاسبة، ولا جدوى من المساءلة، وفي قلب ريبةٍ مبرّرة حول هوية رجال الأعمال هؤلاء، وجنسياتهم، وأسباب ضخّهم كل هذا المال في الوقت الذي استنكف رأس المال الوطني عن الدخول في مشاريع كبيرة بسبب الحال غير المستقر أمنياً وسياسياً، فمن أين تأتي هذه الأموال؟ ومن يقف وراءها؟ بالطبع لا إجابات واضحة ولا استطلاعات رأي، ولا تحقيقات استقصائية واقعية، كل ما علينا القبول فيه هو ما يصدر عن الصحف الرسمية وبيانات محافظة دمشق التي لا مصداقية لأعمالها مطلقاً.
في هذه الأثناء يعم الغموض مصير فندق الشام في قلب العاصمة ضمن أخبار تفيد عن استملاكه من المحافظة تحضيراً لعرضه للبيع في توقع دائم أن المشتري سيكون من جهة خارجية لفندقٍ يحمل إرثاً ثقافياً وسياحياً وإنسانياً أصيلاً وممتداً. أسّس الفندق عثمان العائدي صاحب مجموعة "شام"، وبعد رحيله أعادت المحافظة توزيع أملاكه بسبب مشكلات مالية للمجموعة مع وزارة المالية.
من التقسيمات المتوقعة في المنظور من زمن دمشق، تقسيم منطقة غرب مشفى الرازي (أو ما يعرف ببساتين الرازي)، حتى إن الأخبار الواردة تفيد بأن التقسيم تحقق وهم يقومون الآن ببناء مجموعات سكنية جديدة، لكن المشروع توقّف مثل بقية المشاريع في انتظار السيولة المالية التي ستتدفق من جهات يخشى السوريون أن تكون إيرانية، بعد أنباء تفيد بأن الجمهورية الإسلامية تشتري أراض وعقارات بالجملة في منطقة دمشق القديمة وفي جنوب دمشق.
في المحصلة تبدو البلاد يتيمة دون أهل يذودون عنها أو يستشرفون معاني مستقبلها، أو كغنيمة لحرب لم يخُضها أهلها، بل كانوا من دفع ثمنها بالكامل من أرواح الأبناء، أو من عذابات المهجّرين، أو عبر بيع ما تبقى منها قطعة وراء قطعة.