من القضايا بالغة الأهميّة في إنفاق المال العام الذي تقوم عليه الجماعات والمؤسّسات والجمعيّات المختلفة؛ قضيّة رواتب الموظفين ومنهجيّة التّعامل معها، فالعاملون في المؤسسات العامة التي تتبع للجماعات المختلفة أو تنال تمويلًا عامًّا كالعاملين في كثير من القنوات التلفزيونيّة أو مراكز الدّراسات والأبحاث أو الجمعيّات الخيريّة أو المجالس ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من المؤسّسات الممولّة؛ إنّما هم موظفون يتقاضون رواتبهم من "المال العام" حتى لو وصفت شركاتهم أو مؤسّساتهم بأنّها مؤسّسات خاصّة في التراخيص الإداريّة؛ فالعبرة هنا للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
-
ما هي الضّوابط التي يجب مراعاتها في تحديد رواتب الموظفين؟
إنّ التعامل الحذر مع المال العام الذي يشبه في توصيفه أموال اليتامى في خطورة التعدي عليه؛ يفرض وضع ضوابط واضحة تسيرُ عليها الجهة التي تقوم بتحديد الرّواتب للموظفين بحيث لا يقع أيّ نوع من التعدّي على المال العام أو يلحق أيّ حيفٍ أو جور بالموظفين.
-
ضابط العدل
إنّ الضّابط المركزيّ في تحديد رواتب الموظفين والعاملين الذين يتقاضون رواتبهم من "المال العام" هو العدل، ومن التّعريفات الجميلة للعدل ما قاله الجاحظ في كتاب "تهذيب الأخلاق" المنسوب له: "هو استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير".
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "العدل نظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمرُ الدّنيا بعدلٍ قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدلٍ لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة".
كما يقولُ في موضعٍ آخر: "وأمورُ النّاس تستقيم في الدّنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظّلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إنّ الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدّنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظّلم والإسلام".
أمّا ابن القيّم فيجلّي الفرق بين السّياسة العادلة والسياسة الظالمة في التّعامل وذلك في كتابه "الطرق الحكميّة" فيقول: "ومن له ذوقٌ في الشّريعة، واطّلاع على كمالها، وتضمّنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنَّه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمّنته من المصالح، تبين له أنَّ السّياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأنَّ من أحاط علمًا بمقاصدها، ووضعها موضعها، وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.
فإنَّ السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشّريعة تحرّمها، وسياسة عادلة تخرج الحقَّ من الظّالم الفاجر، فهي من الشّريعة علمها من علمها، وجهلها من جهلها"
وقد جاء التّحذير للمسؤولين عن العمّال والموظفين من مغبّة الظلم في تعاملهم مع هؤلاء الموظفين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي يقول في الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "ما من أميرِ عشرةٍ، إلَّا وهو يُؤْتَى بِهِ يومَ القيامَةِ مغْلُولًا، حتى يَفُكَّهُ العدلُ، أوْ يوبِقَهُ الجورُ".
وكذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده بسندٍ صحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "ليس مِن والي أُمَّةٍ، قَلَّتْ أو كَثُرَتْ، لا يَعدِلُ فيها، إلَّا كَبَّه اللهُ على وَجهِه في النَّارِ".
وفي هذين الحديثين تحذير شديدٌ من الوقوع في الظلم؛ ظلم الموظفين والعمال من قبل المسؤول عنهم، ومن أبشع صور الظلم ظلم النّاس في أرزاقهم واستحقاقاتهم الماليّة.
وهنا يكون المسؤول بين نوعين من التّحذير عليه أن يوازن بينهما؛ التّحذير من تضييع المال العام وإنفاقه في غير مواضعه، والتّحذير من ظلم الموظّفين وبخسهم حقوقهم.
فهؤلاء الموظفون تجري رواتبهم من خزينة المال العام الذي كان يعبّر عنه في كتب الفقهاء الأقدمين بلفظ "بيت المال"، ومن ذلك ما قاله أبو يوسف في كتابه لهارون الرشيد "وكلّ رجلٍ تصيّرُه في عمل المسلمين فأجره عليه من بيت مالهم".
ويقول الشّوكاني في "السّيل الجرّار المتدفّق على حدائق الأزهار": "ثبتَ ثبوتًا لا شكّ فيه ولا شبهة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يجعل لمن عمل عملًا يرجع إلى مصالح المسلمين رزقًا".
والعدل في العطاء أن يكون الرّاتب على قدر الكفاية ومراعاة حال الموظف الاجتماعيّة والأسريّة والبيئة الاقتصاديّة التي يعيش فيها، قال ابن جماعة في "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام": "ويفرض السُّلْطَان لكل وَاحِد من الْأُمَرَاء والأجناد من الْعَطاء أَو الاقطاع قدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي كِفَايَته اللائقة بِحَالهِ، ومروءته، ومنزلته فِي الزَّوْجَات، والاولاد، والخدم، وَالدَّوَاب من مُؤنَة كسْوَة ومسكن، وخيل، وَسلَاح، وحاجة سفر، ويراعى فِي ذَلِك الزَّمَان وَالْمَكَان، والرخص، والغلاء، وَعَادَة الْبَلَد فِي المطاعم والملابس الشَّرْعِيَّة، فيكفيه بذلك المؤونات كلهَا".
فالرّواتب تُعطى للموظفين بناءً على معيار الاستحقاق العادل القائم على حاجة الموظف وكفايته، والعمل الذي يقوم به، فلا يجوز أن يكون راتبه أعلى ممّا يستحقّه مقابل عمله وتوصيفه الوظيفيّ، ولا يجوز التّقتير عليه بإعطائه أقلّ ممّا يستحقّ تحت أيّة ذريعةٍ ما دام يقوم بعمله على الوجه المطلوب منه.
وأمّا إعطاء موظف ما راتبًا أكثر ممّا يستحقّه من باب المحاباة أو الاسترضاء أو بسبب صحبةٍ أو قرابةٍ أو بسبب انتمائه إلى التيّار الفكريّ أو الجماعة التي ينتمي إليها رئيس العمل فهو نوعٌ من الظّلم في العطاء وهو خيانةٌ للأمانة ومحرّمٌ لا يجوز بحال.
قال ابن تيمية في "السّياسة الشرعيّة في إصلاح الرّاعي والرّعيّة": "لا يجوز للإمام أن يعطي أحدًا ما لا يستحقّه لهوى نفسه من قرابةٍ بينهما أو مودّةٍ أو نحو ذلك".
-
بين التّسوية في الرّواتب والمفاضلة بين الموظّفين فيها
العدل في تقدير الرّواتب لا يعني التّسوية في المقادير أبدًا، بل يعني التّسوية في دفع حاجاتهم وتحقيق كفاياتِهم وهذه الحاجات تختلف باختلاف طبيعة وظائفهم ومراتبهم الوظيفيّة.
فهناك فرقٌ بين من كانت مسؤوليّته وعمله يفرض عليه نفقات معيّنة وبين من لا يكلّف إلّا نفسه، كما أنّ هناك فرقًا بين من عنده من يعولهم من زوجة وأولاد وبين الأعزب الذي لا تجب عليه نفقة أحد غير نفسه.
يقول العزّ بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام": "العدل تقدير النّفقات بالحاجات مع تفاوتها عدل وتسوية، من جهة أنه سوى بين المنفق عليهم في دفع حاجاتهم لا في مقادير ما وصل إليهم لأن دفع الحاجات هو المقصود الأعظم في النّفقات وغيرها من أموال المصالح".
وقال الشّافعي في "الأم": "فإذا اجتهد الوالي ففرّقه في جميع من سمّى له على قدر ما يرى من استحقاقهم بالحاجة إليه وإن فضل بعضهم على بعض في العطاء فذلك تسوية إذا كان ما يعطى كلّ واحد منهم سدّ خلّته".
وهذا يفرض على الجهة المتخصّصة بتقدير رواتب الموظفين أن تدرس أحوال الموظفين من حيث الاحتياجات المتعلقة بأشخاصهم وعائلاتهم وأعداد أبنائهم ومن تجب عليهم نفقتهم من غير الأولاد، وكذلك دراسة البيئة التي يتمّ فيها العمل وما تفرضه من احتياجات ماليّة على المقيم فيها، على وفق العرف العام للطّبقة المتوسّطة دون النّظر لأهل الثّراء والتّرف والطبقة المخمليّة فيها، أو النّظر إلى الطّبقات المسحوقة المظلومة في تقدير الرّواتب.
قال الماوردي في "الأحكام السلطانيّة": "وأمَّا تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتى يستغني بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة، والكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه؛ أحدها: عدد من يعوله من الذّراري والمماليك، والثاني: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر، والثالث: الموضع الذي يحلّه في الغلاء والرخص، فيقدَّر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كلّه، فيكون هذا المقدر في عطائه، ثم تعرض حاله في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسَّة زيد، وإن نقصت نقص".
وقال الشّافعيّ في "الأم": "ويختلف مبلغ العطايا باختلاف أسعار البلدان، وحالات الناس فيها، فإن المؤنة في بعض البلدان أثقل منها في بعض".
وهذا التّفاضل في الرّواتب بناءً على المرتبة الوظيفيّة والوضع الاجتماعي والوضع الاقتصاديّ للبيئة محلّ العمل كان معمولًا به في عصور الإسلام الأولى.
فمن التّفاضل بناءً على الوضع العائلي ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن عوف بن مالك "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ كانَ إذا أتاهُ الفَيءُ قسمَهُ في يومِهِ، فأعطى الآهِلَ حظَّينِ، وأعطى العزَبَ حظًّا".
ومن التّفاضل بناءً على طبيعة العمل ما أخرجه البخاريّ في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "قَسَمَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، ولِلرَّاجِلِ سَهْمًا. قالَ: فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقالَ: إذَا كانَ مع الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أسْهُمٍ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ".
إذن فإنّ هذا يفرض على الجهة صاحبة الاختصاص في تحديد الرّواتب الدّراسة المستفيضة لطبيعة عمل الشخص، واحتياجه وكفايته ضمن البيئة التي يعيش فيها وأحوال أسرته التي ينفق عليها، وفي هذا تحقيق للعدل ورعاية للمال العام، وعلى الرّئيس أو المسؤول متابعة هذه الأمور بنفسه فإنّه المسؤول الأوّل بين يدي الله تعالى عن ذلك.
وهنا تتبادر أسئلة حول رواتب الموظفين والعاملين في هذه الجماعات ومؤسسات العمل العام حول التفاضل في رواتب بعض الموظفين بناءً على الحاجة إليهم والمصلحة في وجودهم، كما أن هناك سؤالًا حول تفضيل بعض العاملين والموظفين بالرواتب بناء على الأفضليّة المعنويّة كأن يكون من أهل السبق الثّوريّ، وسؤال آخر حول البطالة المقنّعة في هذه الجماعات والجمعيّات وحكم الرّواتب فيها.