سوف تنتهي الحرب علي غزة بعد حين قد يطول أو يقصر، لكنها ستنتهي، ليس فقط لأن منطق الأمور يقول إن الحروب مها طالت سوف تتوقف بصفقة ما أو بمفاوضات أو بحلول دبلوماسية، لكن أيضا لأن إسرائيل بدأت تستنفذ اقتصاديا بعد أن وصلت خسائرها إلي درجة غير مسبوقة من الانحدار والتراجع بسبب شح الموارد واضطرار الحكومة الإسرائيلية إلى الالتزام بكلفة التعويضات التي ستدفعها في الداخل الإسرائيلي للشركات والمواطنين الإسرائيليين من عائلات ضحايا الحرب أو المصابين، إضافة إلى إعادة تأهيل الاقتصاد والبنى العسكرية واللوجستية الأمنية واستعادة الحياة الطبيعية والسياحة وحركة الطيران وغير ذلك من كلف حرب كبيرة كالحرب التي شنتها علي غزة؛ طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار تراجع دعم الرأي العام العالمي مع المظلومية اليهودية التي لطالما استخدمتها إسرائيل والحركة الصهيونية في نهجها التوسعي الاستيطاني، وتحول هذا الدعم إلى تضامن كامل مع القضية الفلسطينية بعد أن كشفت الحرب الحقائق واستطاع مناصرو القضية الفلسطينية تغيير المزاج العام العالمي نحوها باستخدام كل وسائل الميديا الحديثة؛ ما يعني أن الحكومات الغربية لن تستطيع مواصلة دعمها المادي والعسكري لإسرائيل كما فعلت بداية الحرب، ذلك أن الشعوب في الدول الغربية بدأت فعلا بمطالبة حكوماتها بوقف الدعم غير المشروط لإسرائيل، وما نراه من مظاهرات متواصلة في العالم دعما لفلسطين هو في الوقت نفسه اعتراض واضح وشديد اللهجة على سياسات الحكومات الغربية ومحاولات دؤوبة لمنعها من الاستمرار في تلك السياسات التمييزية الداعمة للاحتلال وللفصل العنصري ولحرب الإبادة ولقمع حرية الرأي، وهو، بحسب ما يرى كثير من الخبراء، سوف يجبر الحكومات الغربية، حتى أكثرها راديكالية في دعم إسرائيل، على التفكير في الخطوة القادمة وعلى التراجع عن وعودها بإبقاء الضوء الأخضر منارا لتكمل إسرائيل حرب الإبادة التي تشنها الآن.
لم يعد لدى أهل غزة ما يخسرونه أكثر مما خسروه حتى الآن سوى المزيد من الأرواح التي لطالما قدمها الفلسطينيون منذ النكبة ولم تتوقف تضحياتهم طوال تلك العقود الطويلة
كما أن استمرار الحرب طويلا سوف يعني تحولها في مناطق أخرى في قطاع غزة والقدس وأراضي 48 إلى حرب شوارع نتيجة الغضب الذي بدأ فعلا بالتفجر، وبدأ الفلسطينيون خارج غزة بعمليات أمنية ضد الإسرائيليين مرشحة للتزايد مع استمرار الحرب ما يعني المزيد من الضغط على حكومة نتنياهو وحزب الليكود الذي كان يرى في الحرب إنقاذا له لكن نتيجتها كانت المزيد من الغضب الداخلي تجاه الحكومة الإسرائيلية، خصوصا مع ظهور الحقائق حول مقتل المواطنين في الحفلة الموسيقية في 7 من أكتوبر، ومع تجاهل نتنياهو لأهمية حياة المختطفين، ومع وضع المختطفين أنفسهم بعد خروجهم من غزة إثر الهدنة. في المقابل لم يعد لدى أهل غزة ما يخسرونه أكثر مما خسروه حتى الآن سوى المزيد من الأرواح التي لطالما قدمها الفلسطينيون منذ النكبة ولم تتوقف تضحياتهم طوال تلك العقود الطويلة، وغزة تحديدا هي أصلا محاصرة، لم تهدأ حروب إسرائيل ضدها منذ سنين، ولم تتوقف محاولاتها لتهجير الفلسطينيين في محيط غزة وإفراغها من سكانها واقتطاعها لتصبح مستوطنات جديدة.
لم يعش الغزاويون منذ زمن حياة طبيعية، قد تكون هذه الحرب هي الأقسى والأعنف والأكثر ضراوة، لكنها أيضا قد تحمل معها حلاً طويل الأمد لحصارهم المستمر منذ عشرات السنين؛ فهذه الحرب لن تكون كسابقاتها، هذه الحرب سوف تحمل معها تغييرا ما، لا أحد حتى اللحظة يعرف ماذا سيكون أو ما الذي سيؤول إليه الوضع، فكل ما يقال هو مجرد تحليلات وتخمينات وربما أمنيات؛ المؤكد الوحيد أنه سوف يتبعها تغيير كبير في كل المنطقة، خصوصا في الدول المتاخمة لفلسطين المحتلة أو في الدول المشتبكة معها ومع الاحتلال في ملفات كثيرة.
ستنتهي الحرب يوما ما، لكن أين نحن العرب من كل ما يحدث وما دورنا في الحرب الآن أو بعد أن تنتهي؟ في الحقيقة فإن حال العرب لا يدعو لليأس وللصدمة فقط بل أيضا للخوف من القادم؛ ذلك أن النظام العربي الحاكم يبدو كأنه يساوم على الدم الفلسطيني وبمنتهى الوقاحة، إذ تمنع حكومات غالبية الدول العربية شعوبها من التظاهر تضامنا مع غزة، وتنتشر قوات الأمن العربية والتدخل السريع وحفظ النظام في الساحات والشوارع تحسبا لأي مظاهرة مفاجئة، ويعتقل رجال الأمن العرب المتظاهرين دعما للفلسطينيين، وبعض الدول المطبعة تعتقل من يضع الكوفية الفلسطينية علي كتفيه، وبعضها يعتقل من يكتب شيئا على وسائل التواصل الاجتماعي، هذا بالنسبة للنظام الحاكم، أما الشعوب العربية فأغلبها بسبب الأوضاع المتردية التي يعيش فيها لا يكترث لما يحدث في فلسطين، فما الذي سيجعله جائعا ومحروما من كل حقوقه الإنسانية وفاقدا لكل نقاط الأمل مهتما بما يحدث في فلسطين وهو الذي اعتاد طوال عقد كامل على كل أنواع الموت والجرائم؟ وللأسف فإن مآلات الربيع العربي وعودة المنظومة الاستبدادية الحاكمة بأشرس وأعنف حالاتها والانهيار الحاصل في البنية المجتمعية للمجتمع العربي وقتل أحلام التغيير وتحولها إلى أحلام بالهرب من هذه البلاد البائسة واللجوء إلى دول العالم الأول، كل ذلك جعل من الشعوب العربية معدومة الحيلة تجاه ما يحدث في فلسطين، ولا تملك شيئا لتفعله سوى التعبير عن الحزن والغضب على وسائل التواصل في الدول التي تتسامح مع هذا؛ وعلينا ألا نغفل هنا ملاحظة أساسية أن من يتعاطون مع الشأن الفلسطيني على وسائل التواصل هم إما ممن ينتمون إلى الشريحة المجتمعية المثقفة والمسيسة، أو الذين يتعاطون مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية المسلمين والإسلام، لا بوصفها قضية العرب المركزية التي نشأت بسببها كل كوارث العرب منذ بدايات القرن الماضي.
وهاتان الشريحتان لا تملكان من الفعل أكثر من مساعدة المنكوبين والمهجرين إلى الجارة الوحيدة لغزة (مصر)، أو الدعوة للمقاطعة الاقتصادية للشركات والعلامات التجارية الداعمة لجيش الاحتلال أو استخدام وسائل التواصل المتاحة لإظهار الحقائق.
ماذا سيكون مصير عشرات آلاف الفلسطينيين من ضحايا الحرب؟ سواد من المهجرين أو من الهاربين إلى مصر أو من الجرحى والمعاقين وهم أكثر مما يمكن لأحد أن يتخيل؟
لكن لنعترف أيضا أن بين العرب من يدعم إسرائيل أكثر من كثير من اليهود حول العالم بذريعة أن حماس تنظيم (إرهابي)، وتطالعنا وسائل التواصل يوميا بعشرات الفيديوهات والتصريحات لعرب يخجل أحدنا أمام لغة الضاد التي تجمعنا بهم لفرط تهافتهم نحو العدو الإسرائيلي.
ضمن هذا المناخ المحبط ماذا سيكون مصير عشرات آلاف الفلسطينيين من ضحايا الحرب؟ سواد من المهجرين أو من الهاربين إلى مصر أو من الجرحى والمعاقين وهم أكثر مما يمكن لأحد أن يتخيل؟ ما مصير آلاف الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم بأكملها وبقوا (مقطوعين من شجرة) كما يقال؟ وهو السؤال ذاته الذي لطالما تم طرحه في الحرب التي شنها النظام السوري ضد السوريين، لكن خلال سنوات الحرب الأولى كان المناخ السياسي العالمي والعربي ملائما لاستقبال السوريين ومرحبا بهم ومعينا لهم في تعافيهم من آثار الحرب، أما الآن فكلا النظامين العالمي والعربي رافض للفلسطينيين ويضيق عليهم منذ الآن، حتى حملات التعاطف الشعبية الحاصلة الآن سوف تتحول بعد حين، فيما لو حسمت الحرب بتهجير الفلسطينيين إلى الدول القريبة، إلى حملات مضادة ليس لأن الشعوب كارهة بل لأنها في ضيق اقتصادي وسياسي وأمني يجعلها تحمل اللاجئين الجدد مسؤولية الانهيارات الحاصلة، ولدى الشعوب تجارب سابقة ما زالت في الذاكرة القريبة.
لا وصف لحال العرب اليوم، لم يحدث كل هذا البؤس والانهيار والتشتت والشوفينية والعنصرية والاستلاب من قبل كما هو الآن؟ سوف تنتهي هذه الحرب وسوف تنتهي باقي الحروب، وقد يتم الاتفاق على حلول سياسية تعيد ترتيب المنطقة العربية، لكن من سيشفي الذاكرة الجمعية العربية من كل هذا الخراب الذي تحتزنه؟