تضاربت الأخبار حول كلفة جنازة الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا السابقة التي حكمت لأكثر من سبعين عاما، عاصرت خلالها أهم أحداث القرنين العشرين والحادي والعشرين، وكان لها، ولحكوماتها المتعاقبة، دور كبير في تشكيل ماهية تاريخ البشرية كما هو عليه الآن، إذ لم يخفت يوما دور بريطانيا أو المملكة المتحدة في صناعة الحدث العالمي والتاريخي، حتى بعد أن رسخت الولايات المتحدة الأميركية حضورها العالمي على كل المستويات واستطاعت أن تبقى في الصدارة، سياسيا وعسكريا واقتصاديا وعلميا، فإن بريطانيا ظلت محافظة على مكانها المباشر في التأثير في الحدث، بالأسلوب البريطاني المعروف: الثبات الانفعالي السياسي والعسكري، والتأني في ردود الأفعال والدبلوماسية شديدة الذكاء في إطلاق المواقف، والدهاء الأمني الشديد في إدارة الملفات التي تضمن لها سيطرة كاملة على ما تريد. ولها في بلادنا تاريخ كامل يدل على ذلك مند العشرية الأولى في القرن الماضي، وحتى هذه اللحظة، حيث لم تتوقف اليوم عن التدخل في ملفات الربيع العربي، ودعم الثورات المضادة وتثبيتها، رغم كل ادعاءات حرصها على الشعوب العربية وقطعها العلاقات، مع نظام بشار الأسد مثلا. وهي سياسة انتهجتها معظم دول العالم عموما، لكن دعم بريطانيا الأمني للثورات المضادة عبر عملائها كان الأكثر تأثيرا على سير الأحداث ومآلات الربيع العربي، وهو ما أظن أن التاريخ لن يتأخر كثيرا في كشفه.
مجريات الجنازة منذ إعلان موت الملكة وحتى نزع التاج عن التابوت قبل إيداعه في باطن الأرض هو للتأكيد على الارتباط الوثيق بين التاج البريطاني وبين السياسية البريطانية الداخلية والخارجية
تقول وكالات الأنباء أن كلفة الجنازة بلغت ما يقارب الستة مليارات جنيه إسترليني، وأن الرقم ستة ملايين الذي أعلن بشكل رسمي هو فقط لعدم إثارة حفيظة المواطنين البريطانيين، لاسيما الراغبين بالتخلص من الملكية، ذلك أن هده الكلفة تمت من حساب دافعي الضرائب في المملكة المتحدة، كما كل ما يتعلق بمصروفات وإنفاقات وأملاك العائلة البريطانية المالكة، التي تعتبر من أغنى العائلات الملكية في أوروبا لما تملكه من أصول ما يسمى عقارات التاج والدوقيات ودخل سنوي من الخزينة البريطانية، وطبعا عدا الأملاك الشخصية للعائلة من المجوهرات والتحف والطوابع الملكية والقصور الخاصة والتي يتوارثها أفراد العائلة وتعد ضمن الأملاك الشخصية غير المعارة من قبل الأمة البريطانية. لكن حتى مبلغ الستة ملايين جعل أنصار حركة إلغاء الملكية يزدادون إصرارا على موقفهم، خصوصا وأن بريطانيا تعيش، كغيرها من بلدان العالم، أزمة اقتصادية كبيرة سببتها جائحة كوفيد ١٩، وقبلها انسحاب بريطانيا من البريكست الذي كان له أثر بالغ السوء على الشركات الصغيرة في بريطانيا، وكذلك ما نتج عن أزمة الاحتباس الحراري حيث يتحدث الخبراء عن بداية جفاف سوف تعاني منه المملكة قريبا وسوف يكون له تأثير كبير على الاقتصاد البريطاني. إضافة طبعا إلى الإرهاصات الاقتصادية التي تنجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
لكن من جهة أخرى، فإن كل مجريات الجنازة منذ إعلان موت الملكة وحتى نزع التاج عن التابوت قبل إيداعه في باطن الأرض هو للتأكيد على الارتباط الوثيق بين التاج البريطاني وبين السياسية البريطانية الداخلية والخارجية والتي تشرف الحكومة ومجلس العموم والبرلمان على تنفيذها، ما يدحض نظرية أن وجود الملكية هو وجود شكلاني فقط، ولا علاقة للملك/ة بالشأن السياسي، فالتخلي عن النظام الملكي يعني انفكاك عقد المملكة المتحدة، واستقلال عدة دول عن التاج، ما يعني أن الخزينة البريطانية سوف تفقد الكثير من مداخيلها، وهو آخر ما يريده البريطانيون حاليا. البريطانيون الذين تجمهروا بالملايين لأيام طويلة بالقرب من قصر بكنغهام لتوديع ملكتهم غير الحاكمة كما يعرفون، لكنها الحامية لخزينة المملكة من الانهيار بسبب وجودها، رغم ما تنفقه هي وعائلتها من جامعي الضرائب!
لا تبدو القضية معقدة بما يخص البريطانيين، فهم يدركون جيدا فوائد وجود الملكية لديهم، ويدركون أن ما فعله التاج البريطاني لبريطانيا الحديثة، خصوصا الملكة إليزابيث الثانية، فيه الكثير مما يجعلهم يتجاهلون كلفة بقاء الملكية غير الحاكمة، وهو ما يبرر هذا التبجيل البريطاني الشعبي الذي شهده العالم في جنازة الملكة، ففي النهاية الشعوب تهتم بمصالحها وتبجل حكامها حين تؤتمن على هذه المصالح وتؤمنها، ولو كان ذلك على حساب شعوب أخرى، كما فعل التاج البريطاني الذي احتل واستعبد وسرق وباع وأهدى دولا وشعوبا فقيرة لا سيما في أفريقيا وآسيا. لكن البريطانيين غير معنيين بهذا، ككل الشعوب الأخرى التي تتحول إلى البراغماتية حينما يتعلق الأمر بمصالحها العامة والخاصة.
كانت الجنازة على قدر التاج وعلى قدر الملكة، لا ريب في ذلك أبدا، وكان الحضور الدولي على قدر حجم بريطانيا في العالم، وكان الحضور الشعبي البريطاني على قدر ما يرى البريطانيون أن الملكة حافظت على بريطانيا في مقدمة الدول، وحافظت على حقوق الشعب البريطاني سواء بشكل مباشر أو حتى عبر هالة التاج. ودع البريطانيون ملكتهم بستة مليارات دولار لأنهم يعلمون أن التاج الذي انتقل إلى رأس وريثها سوف يتمكن من تعويض الخزينة.
المفارقة هي في التهافت لدى الكثير من أبناء الشعوب التي استعمرتها بريطانيا على رثاء الملكة وإيقاف مشاريع فنية حدادا عليها ونعيها على الصفحات الشخصية وتعزية البريطانيين بها واعتبار رحيلها خسارة كبرى للبشرية، وهنا لا نتحدث عن التعازي الرسمية للدول، ولا عن أفراد يعيشون في بريطانيا أو مجنسين بالجنسية البريطانية، بل عن أفراد وفنانين ومثقفين لا تربطهم أية علاقة بالمملكة المتحدة، ويفترض أنهم نخبة شعوبهم، وأن لديهم معرفة ودراية بما أنتجه الاحتلال البريطاني الذي ترأسه التاج والملكة في بلادنا، ويفترض أنهم يدركون أن التاج ليس محمولا على رأس ملكة أو ملك إلا لأن بلادا نهبت وشعوبا استعبدت ومجموعات شردت وأنظمة استبداد دعمت وتنظيمات جهادية أنشئت وأرسلت ومولت. من الغريب فعلا أن لا يدرك أبناء البلاد التي حلت عليها لعنة الاستعمار البريطاني بقيادة الملكة الراحلة ما فعلته هذه الملكة وحكوماتها المتلاحقة! هل كل هذا التهافت هو تعبير عن متلازمة استوكهولم متأصلة أم مجرد دونية لا تستطيع العيش دون مستبد وزعيم؟
لو عاش ليرى جنازة الملكة إليزابيث الثانية التي لطالما دعمته ودعمت وريثه، لكان سيسعى لتحويل سوريا إلى ملكية كاملة بدلا من الجملوكية الحالية عله يحظى بجنازة مشابهة
في لقاء صحفي مع حافظ الأسد لصحيفة أميركية حكى عن أنه شاهد جنازة لأحد الزعماء، وأنه يرغب أن تكون جنازته مثلها، لم يسم الزعيم يومها، لكن الناس وضعت احتمالين: جنازة عبد الناصر وجنازة كيم إيل سونغ، لم تتح له طبعا ولا واحدة من الجنازتين: لا الشعبية العفوية ولا الرسمية القمعية. لأسباب عديدة لها مقام آخر، وأظن أنه لو عاش ليرى جنازة الملكة إليزابيث الثانية التي لطالما دعمته ودعمت وريثه، لكان سيسعى لتحويل سوريا إلى ملكية كاملة بدلا من الجملوكية الحالية عله يحظى بجنازة مشابهة. وعلى ذكر وريثه، فقد كان ينقص الجنازة وجوده فيها كي تزول تلك الغلالة التي ما تزال تخفي العلاقات الحقيقية التي تربط النظام السوري بالمملكة المتحدة.