قبل الاعتراف بمصالحه المدنيّة كان الإنسان الغربي -مثلنا نحن السوريين- خارج التّاريخ، يعيش سيرورة تاريخ الملوك والزعماء والقضايا؛ ولم يكن ذلك الإنسان ليصنع أيّا من أحداث أيامه!
بعيدا عن إسراف نظام الأسد وغيره لمصطلح "اللحظة التاريخيّة" فإنّ المصطلح يحمل مضمونا قد يكون بالغ الأهمية لنا -نحن السوريين- اليوم؛ إذ يبدأ الإنسان ومجموع الشعب بدخول التاريخ لا كمنفعلين فحسب بل كفاعلين لأحداثه لحظة امتلاك إرادة مدنيّة حرّة؛ تدرك اختلافاتها الطبيعيّة العرقيّة، وتنوعها شبه الطبيعي إثنيّا وطائفيّا لتتفق على تتجاوز تلك "الطبيعيّات" بعقد تسامح للتوجه نحو حق الفرد الحر المساوي لكل فرد حر ضمن العقد الاجتماعي المدني؛ ذلك الحق الدنيوي المعيشي الذي لم تقم الدولة الحديثة إلّا لأجله؛ وتلك المطالب التي لا تزال "تسفّهها" الخطابات السلطويّة المتعالية باسم القضايا الدينيّة والطّائفيّة أو القوميّة والعشائريّة!
عند فيلسوف كـ "جون لوك" -باعتباره أحد آباء الليبراليّة الحديثة- لا نعثر على فضاء سياسي خارج البعدين "الطبيعي والمدني" فليس الإنسان السّياسي كائنا فضائيا مفارقا للطبيعة؛ إنما هو فرد مكلّف أو يسعى لنيل التكليف من الإنسان العادي صاحب السلطة؛ لرعاية المصالح المدنيّة لصاحب السلطة المدنيّة في الأمن الغذائي والصحّة والتعليم والسكن والعمل ونحو ذلك؛ وعن مثل هذا المناخ تحدثت مبادرة "مدنيّة" التي أقامت فعاليّة لها في المعهد العربي بباريس بداية شهر حزيران الفائت؛ حين تحدثت المبادرة عن "الأحقية السياسية للمجتمع المدني" لولا أن مفهوم المجتمع المدني بدا مقصورا على مسمّى "منظمات المجتمع المدني" وموظفيها في أحسن الأحوال؛ لا على مدنيّة السوريين المتّهمين بمدنيّتهم!
في حزيران من عام 1919 كان السوريّون على وشك الانتقال من النمط الإمبراطوري للسلطة السياسيّة متمثّلا بالسلطنة العثمانيّة إلى نمط الدولة الحديثة وسيادة المواطن الفرد، فعقدوا حينذاك مؤتمرا لتأكيد مدنيّتهم وأنشؤوا حكومة -الملك فيصل- غير أن مصالح الدول المنتصرة في الحرب العالميّة الأولى -وفرنسا من بينها- أبت أن تعترف بتلك المدنيّة؛ وعوضاً عن ذلك حصلت فرنسا وقتها على تكليف من عصبة الأمم بانتدابنا لتمديننا؛ وحتى بعد جلاء فرنسا عن سوريا عام 1946 وتركها نموذجا "لائكيّا" فإنّ شيئا ما أساسيّاً قد تغيّر: فلم تعد مهمّة الفرد السياسي أو المدني التعبير عن قيم مدنيّة محلّيّة إنما أصبح يلعب دور "المُمدّن والمُحدّث" لشعب عليه تعلّم المدنيّة!
تأخّر النظام ورواغ فانطلقت لحظة تاريخيّة مدنيّة سوريّة في آذار من عام 2011؛ لحظة لم تكشف عن "تخلّف النظام السياسي الأسدي" وحده؛ إنما عن تخلّف المعارضات أيضا!
وسواء أتقبّل تيار الإسلام السياسي تلك المدنيّة أو لم يتقبّل التيار الشيوعي الماركسي تلك الحداثة فقد مرّ على السوريين نحو مئة سنة من "التطوير والتحديث" وانهار النموذج السوفييتي بداية تسعينيّات القرن الفائت ووصلت رياح العولمة متجاوزة الحدود الجغرافية والفكريّة؛ فشهد الجيل السوري الشّاب تطورا ملحوظا خلال عقد منتصف التسعينيات حتى 2005 -تنكره أدبيات المعارضة التي كانت خارجيّة- وأخذ النظام ذاته مبادرة الدخول في "السوق الحرّة" ولم يتبقّ سوى التخلّص من "أجهزة أمن السلطة" وإنجاز التغيير السياسي بإعادة السلطة إلى المواطنين وقبول الديمقراطيّة!
تأخّر النظام ورواغ فانطلقت لحظة تاريخيّة مدنيّة سوريّة في آذار من عام 2011؛ لحظة لم تكشف عن "تخلّف النظام السياسي الأسدي" وحده؛ إنما عن تخلّف المعارضات أيضا!
"الشّعب يريد تغيير- إسقاط النظام" تعبير عن إرادة واضحة أطلقها شابات وشباب سوريّون تماما؛ لا تظهر على ملامحهم ولا على هتافاتهم أيّ من الاتهامات التي سوف ينسبها النظام لاحقاً إليهم؛ فليس من الغريب أن يتمسّك النظام بوظيفته في "التطوير والتحديث" باتهام السوريين في مدنيّتهم فيشكك في قبولهم التسامح الديني والطائفي والعرقي؛ وسواء أكان النظام وحده المستثمر في الإرهاب أو أنه أحد المستثمرين به فقد كان الإرهاب الذي وصل إلى سوريا عابرا حدود الدول بمنزلة حصان طروادة الذي أمّن استمرار النظام الوظيفي لفترة!
ليس النظام وحده من سينكر "اللحظة التاريخيّة" لتتابع سيرورة منطقيّة وصولا إلى استحقاق الإنسان السوري لاستعادة سلطته المدنيّة وتولي مسؤوليّاته أسوة بمواطني الدول الديمقراطيّة الليبراليّة أو "أصدقاء الشعب السوري" بل حتى أسوة بالطموح التركي منذ خمسينيّات القرن المنصرم لدخول نادي تلك الدول؛ بل لعلّ أصدقاءنا الداعمين لمعارضاتنا كذلك!
إذ قلب كل من النظام والمعارضات معاً معادلة "الشعب يريد إسقاط- تغيير النظام" إلى "النظام – المعارضات يريدون تغيير ثقافة- تغيير ديمغرافيّة أو حدود الشّعب" فبدت أهداف النظام في إبادة السوريين أو تهجيرهم لا تتناقض تماما مع تصورات المعارضة تجاه جزء من السوريين مع بالغ الأسف!
توسّع تيار الإسلام السياسي -السني والشيعي- في تلك اللحظة حتى مرّت على التاريخ كلّه ولم تكد تصل بعد إلى الاعتراف بمدنيّة سوريين عام 2011 بل لم تكد تعترف بعدُ بالدولة الحديثة وحدودها
تعالوا نستعرض كيف تمثلت فرق المعارضات لحظة السوريين التاريخيّة عام 2011:
توسّع تيار الإسلام السياسي -السني والشيعي- في تلك اللحظة حتى مرّت على التاريخ كلّه ولم تكد تصل بعد إلى الاعتراف بمدنيّة سوريين عام 2011 بل لم تكد تعترف بعدُ بالدولة الحديثة وحدودها فضلا عن مهمّة الدولة المدنيّة لا الدينيّة!
من جهتهم فالعلمانيون السوريّون -الماركسيّون غالبا- عاتبون على البعث ولعلّ إعادة التاريخ لما قبل انتصار البعث عليهم في معركتهم السلطويّة يكون التوجّه الأكثر ملاءمة!
القوميون الآخرون -غير العرب- اكتشفوا أيضاً -أخطاء- التاريخ؛ وهاهم يصلحون التاريخ والجغرافيا والوعي على نموذج تصور حداثي آخر!
العرب عادوا إلى العشائريّة وصولا إلى خصومة أحد قادة المجالس العسكريّة مؤخّرا مع ابن عشيرته حول أحقيّة "إمارة العشيرة"!
على أية حال فإنّ التمثّل القبائلي لمفهوم "الشعب" ليس حكرا على القبائل العربية فحسب بل لعلّ الخطاب "المكوّناتي" قد تم تصميمه للوصول إلى هذا المستوى الهويّاتي؛ ولعلّ اللافت ليس انحدار الخطاب المدني السوري فحسب بل انحسار دعم الأصدقاء على أجسام سياسيّة معارضة -سواء لدى الائتلاف أو لدى قسد- تعتمد تمثيل "المكوّنات" بناء على هذه العتبة الطبيعيّة من التنوع البشري؛ ما معناه ضمنا عدم الاعتراف بمدنيّة سوريّة سابقة وعدم الاعتراف بمجتمع مدني سوري!
مؤخّرا أطلقت حركة "10 آب" شهقة مدنيّة تناولها العالم المتحضّر بالإهمال فيما تناولتها نخب المعارضات المتعالية على "الجوع" -كل بحسب ثقافته الأصوليّة أو العلمانيّة- بنفي أن يكون الإنسان السوري العظيم إنسانا "استهلاكيّا"؛ حتى دأب حراك السويداء مؤخرا على نفي الخروج لأجل "الجوع" وكأن ذلك تهمة!
لعلّ تحديد تعريف للنظام الذي أراد الأفراد السوريون عام "2011" إسقاطه سيعني الاعتراف بالمعنى التاريخي لذلك النظام لتجاوزه، وسيعني الاعتراف باللحظة التاريخيّة الفارقة التي صنعها هتاف شابّات وشباب سوري لم يكن منتمياً لأي من تصوّرات المعارضة وقبل تحويل الصراع من ثورة حريّة إلى حرب أهليّة؛ إذ في نهاية الحرب الأهليّة يمكن أنّ يتفق شيوخ القبائل والطوائف والأعراق على إنشاء "عقد اجتماعي" مناسب لهم؛ لكن ذلك العقد لن يعيد السلطة إلى الأفراد السوريين بحسب ما يقتضيه المجتمع المدني وما يحقق مضمون الانتقال السياسي الذي نص عليه القرار 2254؛ بل سيعني انتقال السلطة من أيدي نظام الأسد وأزلامه إلى أيدٍ أخرى فحسب!