في أيلول عام 2015 ومن نقطة ما في تركيا، عبرنا البحر الأبيض المتوسط نحو اليونان في قارب مطاطي طوله سبعة أمتار وعرضه أقل من 3 أمتار.. تكومنا 32 إنساناً حول بعضنا بعضا، حملنا أرواحنا في حقائبنا وبرفقة القهر وملح البحر نجونا، وبعد نحو عام نشرتُ مقالاً كان عنوانه "أنا والله في القارب" في منبر إعلامي، وحتى تاريخه وكلما قرأت مقالتي هذه، أبكي وكأنني مازلتُ في البحر أنتظر الوصول الآمن لجزيرة ليسبوس التي كانت تنتظرنا مع عدد من البشر الرائعين من منظمات أوروبية.
نعم من نجوا أنواع، وبالقاموس الكلاسيكي الماركسي يمكن تقسيمهم لطبقات، طبقة من وصل بالطائرة وبشكل نظامي، وطبقة كبيرة جداً وأنا منها وصلنا عبر القارب المطاطي، الذي يطلق عليه البلم. لذلك أشعر أنّ لي حقاً أكثر من غيري للتعبير والكتابة عن "الهاربين من الانحطاط" كما أطلق عليهم الكاتب حسان محمود. الهاربون من جحيم الشرق الأوسط.
فالمهربون لا يأخذون فقط المال من الهاربين إنما يعتقلونهم بمعنى ما، فالهاربون، رجالاً ونساء وأطفالاً، هم بضاعة المهرب، بضاعة ولكنها على شكل بشر، أناس تريد العيش بشكل عادي، المهرب وفي الفترة الزمنية التي يسيطر فيها على بضاعته من لحظة القبض عليها إلى لحظة إطلاقها للقدر في البحر يشبه تماماً الزعيم المطلق، فبيده مصير الناس، البضاعة. نعم نحن البضاعة عند الرئيس الزعيم وعند المهربين.
لا يمكن لأبجدية بشرية أن تشرح كمية الخوف الذي يعيشه الهارب وهو يعبر البحر. ينتهي كل شيء، إنها ساعة الصفر إنما بالمعنى النفسي والأخلاقي، ساعة الصفر لأنها تحدد المصير إما نحو قاع البحر وإما نحو الحياة
في البحر انتظرنا مصيرنا جميعاً، كما انتظر الناجون والغارقون مصيرهم في الكارثة الأخيرة منذ أيام، حين أصبحنا في مواجهة القدر والبحر وحدنا انتهى كل شيء، بكينا، تعثرنا بدموعنا، كما بكى ناجون وغرقى قبل موتهم أو نجاتهم، بكينا بقهر مديد، قهر عمره من عمر الخوف من الجلاد، من الاعتقالات. كان الخوف هائلاً لا يمكن شرحه، الخوف يعاش ويبقى، لا يمكن لأبجدية بشرية أن تشرح كمية الخوف الذي يعيشه الهارب وهو يعبر البحر. ينتهي كل شيء، إنها ساعة الصفر إنما بالمعنى النفسي والأخلاقي، ساعة الصفر لأنها تحدد المصير إما نحو قاع البحر وإما نحو الحياة.
حين صنعت السبّاحة العالمية السورية يسرى مارديني فيلمها وعرضته منصة النتفليكس وكان بعنوان "السبّاحتان"، شاهدت الفيلم برفقة ذكرياتي الشخصية، ذكرياتي التي ستبقى معي حتى أموت مثلها مثل روحي. فيسرى وأختها وشخص آخر معهما وفي مرحلة زمنية في البحر قاموا بجرّ القارب سباحة، بينما لو حدث نفس الأمر معنا لكنا الآن في عداد المفقودين.
منذ تلك الأيام لم أتصالح مع الماء وكلما شاهدت البحر أصمت طويلاً.
سيقال الكثير عن المركب الغارق في المتوسط منذ أيام، وسيكتب الصحفيون عشرات المقالات عنه، رثاء وتعبيراً عن التعاطف، لكن هناك حقيقة ساطعة سطوع الشمس فحواها: أن الطاغية والطغاة هم سبب هذا الموت المديد، في المركب سوريون ومصريون وباكستانيون وأفغان ولكن ليس بينهم هارب واحد من بلد ديمقراطي.
سؤال مفجع وقاهر علينا إعلانه الآن وبكل اللغات: لماذا هربنا؟ لماذا يهربون؟ لماذا يعرّض الهارب حياته للخطر للوصول إلى البر الأوروبي؟
الجواب واضح وصريح، إنه الطغيان والطغاة، والقهر، والفقر، والجهل، والتخلف، والخوف، ورجال الدين المتحالفون مع الطغاة، وداعش العنف، وداعش التطرف الديني، وغياب التنمية، فطوال خمسين عاماً لم يصنع نظام الأسد شارعاً بمواصفات فنية جيدة. ما نجح به الأسد طوال عقود هو بناء السجون والمعتقلات وفروع الاستخبارات وتعميم لغة النفاق والرعب والتملق.
كانوا يجهزون سلاحاً كيماوياً طوال عقود لردع "الأعداء" واتضح أنّ السوريين هم أعداء نظام الأسد.
قبل هروبي بسنوات، قلت مراراً أريد فقط غرفة من تراب صالحة للنوم بدون خوف من الاستخبارات، وسريراً واحداً وخبزاً وماء نظيفا! نعم لم يتوفر لي حتى غرفة تراب آمنة ولم يتوفر لي حتى رغيف خبز نظيف.
نحن الغرقى في المتوسط، كان يجب أن نُغرق الطغاة والطغيان، كان يجب أن نُغرق منصات التخلف وتعميم الجهل، نحن الغرقى كان يجب أن ننجو ونبقى في أوطاننا
أنظمة قذرة قوامها أجهزة الاستخبارات والجيش، تسرق جهاراً نهاراً شعوبها، تعمم الجهل والتخلف بسياسات منهجية يومية، وعبر الفساد الممنهج تحول الجميع إلى متهمين كما عبّر عن ذلك مرات الراحل طيب تيزيني وهو يعرّي بنية الدولة الأمنية.
بالمناسبة وعلى سيرة القهر والهروب: هل رأيت مهاجراً واحداً يلجأ لإيران أو لروسيا؟ أو للصين؟
نحن الغرقى في المتوسط، كان يجب أن نُغرق الطغاة والطغيان، كان يجب أن نُغرق منصات التخلف وتعميم الجهل، نحن الغرقى كان يجب أن ننجو ونبقى في أوطاننا، لكن عدد المخبرين والعساكر فاق عدد الناس العاديين وعدد الأسلحة هناك الموجهة لصدور الناس أكثر بكثير من عدد أشجار تلك الأوطان المسورة بالرعب.
لذلك تمسّك بموتك، تمسك بقبرك، يا رياض الصالح الحسين فسوريا وللأسف حتى الآن هي التعيسة، سوريا الناس هي العظمة بين فكي الأسد.