الأمر بغاية البساطة: انتبه إلى ما يريده الفلسطينيون وكن معه؛ هكذا سوف تخفف عن نفسك عبء الخطأ لو كنت تظن أنك غير متأكد من رأيك بما يحدث، أو لو كنت غير واثق من صحة موقف ما في ذهنك. يبدأ الانحياز إلى القضايا العادلة بالانحياز إلى أصحابها، هذه البديهية بالغة البساطة تصبح لدى كثر من العرب اليوم معضلة كبيرة، سببها الأول الإيديولوجية التي تتخذ في أوقات كثيرة دور (الطماشة) على البصيرة وعلى الباصرة معا؛ ذلك أنها تمنع رؤية الاتجاهات كلها لصالح خط مستقيم واحد لا تعرجات فيه، مع أن القضايا الوطنية والسياسية هي قضايا مرت عبر تاريخها وتمر بكثير من المتعرجات والمنعطفات ما يمنع معها الرؤية الأحادية التي توصم الكثير من معتنقي الإيديولوجيات حاليا.
ينسب كثر من العرب (منهم مثقفون) حيادهم تجاه الأحداث الأخيرة الجارية على أرض فلسطين المحتلة وفي غزة تحديدا، بأن حركة حماس هي المسبب لها، وهي التي وضعت الفلسطينيين على خط النار الحالي وهي التي استفزت إسرائيل لتصب حمم الجحيم على رؤوس أهل غزة. ويتذرعون أيضا بأن لحماس أجندات أخرى لا تكترث لمصلحة فلسطين والفلسطينيين، بل هي تتبع مصالح أنظمة دول أخرى كالنظام الإيراني والنظام السوري مثلا، وأن ما فعلته في السابع من أكتوبر الحالي هو خلط للأوراق لتنفيذ مخطط ما، وبالتالي عليها أن تتحمل ما جنته يداها.
هذا ليس سوى منطق متخاذل عن اتخاذ موقف في الزمن الصعب، موقف من له حسابات شخصية في الوقت الذي تمنع فيه معظم دول العالم التعبير عن الوقوف مع فلسطين
واللافت أن هناك سوريين مع الثورة السورية وضد النظام السوري يرددون كلاما كهذا ويعلنون حيادهم تجاه الأحداث الأخيرة، دون أن يخطر لهم التفكير للحظة واحدة أن ما يقولونه حول حماس وغزة وفلسطين ينطبق في كثير منه علي الوضع السوري والقضية السورية؛ إذ من السهل على مؤيدي النظام السوري القول إن من ثاروا على النظام هم السبب فيما وصلت إليه سوريا وهم السبب في استفزاز النظام ليصب جحيم غضبه على السوريين، فلو أن أحدا من السوريين لم يثر لبقيت سوريا هادئة، ولو أن أحدا من الثوار السوريين لم يستخدم السلاح لما قام النظام السوري برد فعله دفاعا عن نفسه؛ هذا كلام نسمعه دائما من مؤيدي النظام (أفرادا وجماعات)؛ وهو للأسف ما يردده حاليا سوريون عن حماس وغزة وإسرائيل؛ أين المنطق في هذا؟ وهل يختلف هذا المنطق عن منطق المطبعين المتعاملين مع العدو الصهيوني؟ هل هذا فعلا وقوف على الحياد؟ علينا إذا أن نعذر مؤيدي النظام السوري على موقفهم من الثورة وأهلها، هم يقفون وراء نفس الذريعة ويعتمدون نفس المنطق في حيادهم؛ أما القول بأن حماس وقفت مع النظام السوري ومدعومة من إيران التي تقتل السوريين وبالتالي فالوقوف معها هو إعطاء مشروعية لما يفعله النظام السوري وإيران بالسوريين، فهو كلام يحمل خطأ كبيرا ذلك أنه يختزل فلسطين وقضيتها التاريخية بتنظيم صغير ظهر بعد أن توافقت كل الأنظمة علي تصفية الحركة الوطنية التقدمية لصالح تنظيمات مذهبية ودينية، هل فلسطين هي حماس؟ وهل أهل غزة كلهم حماس؟ إذا فإن الثورة السورية كلها الإخوان المسلمون والنصرة وداعش، وبالتالي من حق النظام محاربتها بوصفها إرهابا. هذا ليس سوى منطق متخاذل عن اتخاذ موقف في الزمن الصعب، موقف من له حسابات شخصية في الوقت الذي تمنع فيه معظم دول العالم التعبير عن الوقوف مع فلسطين في مشهد موت بين للديموقراطية وحرية التعبير في العالم المتحضر سوف لن ينساه التاريخ مطلقا.
ثمة إيديولوجيا من نوع آخر يقف أصحابها على الحياد بذريعة التنوير وأن من يمثلون القضية الفلسطينية الآن هم إسلاميون متطرفون لا يختلفون عن التطرف الإسرائيلي، وأن هذا التمثيل أنهى القضية وحولها إلى صراع ديني واختزل فلسطين كلها بالأقصى حتى إن اسم العملية الأخيرة (طوفان الأقصى) يلغي اسم فلسطين لصالح إيديولوجية دينية لها مصالح محددة وضيقة، كما أن لدى العرب حاليا كثيرا من المشكلات السياسية والقضايا التي ليست بأقل أهمية من القضية الفلسطينية؛ مبدئيا يجب القول إن صاحبة هذه السطور تقف على الضفة الأخرى المعاكسة والمناهضة لكل الإسلام السياسي أو لكل التنظيمات الدينية، (الدين لله والوطن للجميع) في سوريا وفلسطين وكل العالم، والمجتمعات القائمة على الدين هي مجتمعات فاشلة والدول التي تحكمها هي دول فاشية، بالنسبة لي هذا مبدأ لا أحيد عنه. كما أنه، ورغم التهليل والفرح بعملية طوفان الأقصى التي حركت مشاعر كانت شبه ميتة في وجدان كثير من العرب، فهي أول عملية من نوعها في قلب الكيان منذ عام 1973، إلا أننا جميعا كنا خائفين من ردة الفعل الإسرائيلية أولا، وخائفين من أن تكون هذه العملية مقدمة لمخطط كبير لم تظهر بنوده للعلن بعد؛ وربما قد يكون رد فعل المجتمع الدولي العنيف وغير المفهوم أو المبرر تجاه كل من يعلن تضامنه مع الفلسطينيين هو لمحاولة تضخيم العملية وتبرير ما سيحدث لاحقا، (ظهر التضخيم في تلفيق أخبار عن ارتكابات قام بها عناصر حماس ضد أطفال ونساء إسرائيليين وتم التراجع عن هذه الأخبار لاحقا). لكن رغم كل ما سبق فإنه ينبغي التفكير مليا في التزام الحياد (تأييد بعض العرب للعدو الصهيوني فيه من الوضاعة ما لا يستحق الحديث عنه أساسا). ذلك أن إسرائيل لم تكن يوما حمامة سلام، ولم تتوقف يوما عن التنكيل بالفلسطينيين، ولا عن محاولات تهجيرهم واحتلال بيوتهم وأراضيهم، ووجود ما يسمى بغلاف غزة هو نتيجة للمحاولات الدائمة للتهجير، إسرائيل تحاصر غزة منذ زمن، تمنع عن أهلها كل شيء تقريبا، بنت جدارا ضخما كي تحدد حركتهم، المعابر حولهم مقفلة إلا بأوقات محددة، يعيش أهل غزة بسجن مفتوح بكل معنى الكلمة، تنتقم منهم إسرائيل وتقصفهم كل مدة بحجة تصفية حماس، ولنكن واضحين أيضا: يمكن لإسرائيل لو أنها تريد فعلا تصفية قادة حماس أن تفعل ذلك دون أن تدمر بيتا واحدا أو تقتل مدنيا واحدا؛ الجميع يعرفون هذا، لكن إسرائيل تجد في بقاء حماس مبررا قويا لضرب غزة مرة إثر مرة، وتهجير شعبها المتمسك بأرضه. ما يحدث اليوم، على الأرجح، هو المحاولة الأخيرة للتهجير، فالإعلان عن الحرب البرية والطلب من أهل غزة التوجه نحو مصر، والتحركات العسكرية الأميركية والبريطانية في البحر المتوسط، وعدم تدخل حزب الله حتى الآن، وضرب العمق السوري مع ما يحدث أصلا في سوريا (قصف النظام لإدلب وقصف تركيا لمناطق "قسد"). وما سبق الإعلان عنه عن قرب الوصول لاتفاق التطبيع بين المملكة السعودية وإسرائيل، كل هذا الذي يحدث يقول إن هناك مخططا كبيرا يتجهز الآن لبلادنا يدفع ثمنه الفلسطينيون وأهل غزة أولا.
لم تترك الأنظمة العربية والمجتمع الدولي لنا من كرامتنا سوى إعلان مواقف أخلاقية في القضايا العادلة، الحياد معها يعني التخلي عن آخر ما تبقى لنا من الكرامة
كيف يمكن الوقوف على الحياد مع أخبار كهذه؟ لم تترك الأنظمة العربية والمجتمع الدولي لنا من كرامتنا سوى إعلان مواقف أخلاقية في القضايا العادلة، الحياد معها يعني التخلي عن آخر ما تبقى لنا من الكرامة، يعني التخلي عن قيمة مقاومة الظلم والوقوف في وجهه، يعني التساوي التام مع مؤيدي الأنظمة الفاشية والاستبدادية والقاتلة المحمية من إسرائيل حرفيا مهما ادعت عداء لها، نقف مع غزة ليس فقط لأجل الأقصى ولا لزجل الإسلام ولا لأجل العروبة ولا لأجل أي إيديولوجية، نقف معها لأن شعبها (لا حكامها) مقاوم، ولأن قضية فلسطين هي أم القضايا العربية ولأن لا حل لكل مآزقنا وهزائمنا السياسية والأخلاقية دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، نقف مع غزة لأن العدالة قيمة كبيرة ولأن الظلم حارق ومخيف، ولأن للأخلاق وجه واحد فقط هو الوقوف ضد الظلم مع المظلوم والوقوف مع الضحية ضد القاتل.