الحدود أغلقت
يصل أوروبا ما لا يقل عن 300000 لاجئ سنوياً عبر طرق التهريب المختلفة براً وبحراً وجواً. تستقبل ألمانيا العدد الأكبر منهم. واللاجئ بالتعريف القانوني والشعبي القريب منه: هو الشخص الذي فرّ من الموت بكل أشكاله: حرب، إعدام، اعتقال أو أي وسيلة أخرى. وقد فقد في رحلة اللجوء هذه المرّة كل ما يملك تقريباً من أموال وأوراق رسمية وحاضر ومستقبل. بناء عليه يحظى اللاجئ بدعم خاص وبرامج تأهيل مموّلة تمتد حتى خمس سنوات لإعادة بناء مستقبله، كما تتكفل شركات التأمين الطبي بكل برامج التأهيل النفسي اللازمة. وكلها تخرج من جيب دافع الضرائب الأوروبي. وبذلك يتمّ التفريق بين اللاجئ والمهاجر من الناحية القانونية، ولكن ما إن يدخل اللاجئ في الحياة العملية حتى يندمج المصطلحان، ويطلق على الوافد وصف "مهاجر" وتنتفي الفروقات القانونية والاجتماعية بين المصطلحين.
موجة لجوء عام 2015 والتي أثارت تعاطف المواطن الأوروبي، وقد بذل جهداً كبيراً في دعم اللاجئين الوافدين مادياً واجتماعياً وسياسياً، انقلبت بعد عدة أعوام إلى تساؤل ونقمة وحذر: نسبة كبيرة من السوريين أتوا من بلدان الخليج والسعودية، آخرون أتوا من مصر والمغرب والجزائر، أي أنها بلدان آمنة. منهم الآن مَن يزور سوريا، تلك البلد التي يُفترَض أنها غير آمنة، ومنهم من يجهر بتأييد نظام الأسد الذي يُفتَرض أنه فرّ منه!!
لاحقاً توالت التقارير الصحفية ثم الرسمية عن لاجئين سوريين زاروا سوريا بشكل غير قانوني بلغ عددهم في ألمانيا نحو خمسين ألفاً حسب اللوائح المرسلة من نظام الأسد نفسه إلى الجهات الرسمية الأوروبية، كما بلغت نحو 13000 ألف لاجئ سوري في النروج حسب اللائحة نفسها. الأرقام هذه يتم الإعلان عنها على الصفحة الرسمية لدائرة الهجرة والتي تُعرف اختصاراً "البامف". يمكن أن نتخيل أيضاً ما يتداوله الألمان على صفحات السوشيال ميديا من حقائق ومبالغات وشائعات عن المهاجرين الذين أتوا كلاجئين ونالوا مزايا اللجوء المالية، والتي تخرج من أموال دافع الضرائب من دون وجه حق.. هكذا. وقد حفرت جرحاً عميقاً في الوعي الألماني ورسخّت فكرة التفريق الكامل بين الهجرة واللجوء، والرفض الكامل للتداخل بين المصطلحين.
في عام 2017 أطلق وزير الخارجية الألماني السابق فرانك فالتر شتاينماير تصريحاً مرّ على السوريين مرور الكرام، لكنه نال تأييداً كبيراً من الجمهور الألماني، وأخذ طريقه للتطبيق العملي مع ما جرّ على وضعية اللاجئ القانونية من تغييرات كبيرة، فقال: نحن نعلم أن كثيراً من السوريين هم مهاجرون من أجل حياة أفضل، وقد أتوا منتحلين صفة اللجوء، حاصلين على مزاياه القانونية. لكننا كدولة قانون لا نستطيع إعادتهم أو التفريق بينهم وبين اللاجئين الحقيقيين. نعدكم أننا سنبذل جهداً كبيراً للتفريق بينهم في الأيام القادمة.
زادت صعوبة حصول السوري على صفة لاجئ، بغض النظر عن استحقاقه لها أم لا. وأصبح كل قادم إلى ألمانيا هو مهاجر ينال الحماية الجزئية، حتى يتم منحه صفة اللجوء
بدءاً من عام 2017 بدأت ألمانيا تتشدّد في قوانين اللجوء، ورغم الخلافات بين الأحزاب على أعداد اللاجئين الذين يتوجّب استقبالهم سنوياً وبعض التفاصيل الأخرى، لكنها لم تختلف على القوانين التي تسعى إلى التفريق بين اللاجئ والمهاجر وتغلق الثغرات القانونية الخاصة بتداخل المصطلحين من الناحية القانونية طبعاً. وبالتالي زادت صعوبة حصول السوري على صفة لاجئ، بغض النظر عن استحقاقه لها أم لا. وأصبح كل قادم إلى ألمانيا هو مهاجر ينال الحماية الجزئية، حتى يتم منحه صفة اللجوء. طبعاً كان السوري ـ خصوصاً المعارض أو القادم من المناطق الثائرة ـ هو الأكثر تضرّراً من هذا التشدّد، والأكثر دفعاً لأثمان اللجوء النفسية والمعنوية.
كما أغلقت ألمانيا كل برامج استقدام اللاجئين من دولة ثالثة. وتلكأت في تنفيذ تعهداتها في استقدامهم من تركيا. حيث آثرت بدلاً من ذلك توجيه دفعات مالية نحو الدولة الثالثة مثل تركيا ولبنان والأردن والمغرب، إضافة إلى اليونان وإيطاليا وإسبانيا، وعقد الصفقات المشبوهة التي تضمن إقامة حاجز يحول دون وصول اللاجئين والمهاجرين إلى حدود الاتحاد الأوروبي، أو بدقة أكبر إلى حدود دول الرفاه الأوروبي غرب أوروبا وشمالها.
في العمق استنسخ السوري التجربة التركية والمغاربية حرفياً: اعتمادٌ كُلّي على المساعدات الاجتماعية، ووسائل لا تنتهي من التهرّب من العمل والضرائب. الإحصاء الرسمي الأخير يبيّن أن 60% من اللاجئين (القادمين في فترة بين 2013 ـ 2016) يعتمدون على المساعدات الاجتماعية بشكل كامل، و28% يتلقون مساعدات جزئية أي بعد سبع سنوات لم يستطع سوى 12% فقط الاستقلال الكامل والاستغناء عن المعونات ودفع الضرائب. من الواجب القول إن هناك أسباباً وجيهة لفشل إدماج اللاجئين في السوق الألمانية تبدأ من البيروقراطية الألمانية ولا تنتهي بعائق اللغة وضعف التأهيل المهني وعدم امتلاك أوراق رسمية كما المعوقات الثقافية والعنصرية..الخ. ولكن ما يهم المواطن الألماني والأوروبي عموماً أنها تجربة مرهقة وغير ناجحة ولا يريد تكرارها.
تكرار هذه التجربة سيؤدي أيضاً ـ من وجهة نظرهم ـ إلى انفجار مجتمعي؛ حيث شهدت السنوات السابقة عدداً من حوادث التحرش الجماعي مثل حادثة كولن، أو تحرش واغتصاب فردي. رغم أن هذا يحدث في كل المجتمعات، ويحدث في ألمانيا قبل موجة اللجوء وسيحدث بعدها، ولكن كثيراً ما يتم تداولها بشكل عنصري، وكشاهد على تخلّف الرجل الشرقي واستعداده الدائم للجنوح نحو الجريمة. الكثير من الألمان ينساقون وراء تلك التفسيرات خصوصاً مع الضخ الإعلامي حول الشرق والحروب الأهلية التي لا تنتهي. النظرة المسبقة تلك ترسّخها التجربة التركية والمغاربية: من الستينيات وهم يعيشون في "غيتو" اجتماعي مغلق، وإسلام يحكمه "فقه الطوارئ" ريثما يعودون إلى بلادهم: فلا هم عادوا، ولا هم أنشؤوا حياتهم الطبيعية ومدّوا الجسور اللازمة مع المجتمعات الأوروبية. النتيجة هي صعود اليمين المتطرّف، وهو آخر ما يريد الأوروبي رؤيته!
تقبّل المزاج الأوروبي فكرة أنّ إبعاد اللاجئ عن الحدود الأوروبية، أقلّ سوءاً من انفجار مجتمعي داخلي
جرائم القتل التي قام بها أفراد من داعش، سواء من المولودين هنا في أوروبا أو من اللاجئين الجدد أثار السؤال الكبير مجدّداً في الوعي الأوروبي عن مدى ولاء هؤلاء للمجتمعات المحلية التي استقبلتهم وساعدتهم، أو مدى ارتباطهم بالمجتمعات الشرقية بشكل يجعل منهم قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، ما أسهم في انتفاء التعاطف معهم، والعمل على إبعادهم ما أمكن. وهكذا تقبّل المزاج الأوروبي فكرة أنّ إبعاد اللاجئ عن الحدود الأوروبية، أقلّ سوءاً من انفجار مجتمعي داخلي. وأصبح يغضّ الطرف عن العمليات القذرة التي تجريها حكومته وراء الكواليس، على اعتبار أنه أخفّ الضررين!
آخر الأسباب هو الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا، حيث أسهم التضخم والبطالة نتيجة كورونا في خفض مستوى الدخل وتفاقم قضايا الفقر حتى في دول الرفاه. لعلّها مازالت أزمة غير مرئية للمراقب الخارجي ولم تطفُ على السطح بعد، لكنها رماد جعل الأوروبي ينكفأ على قضاياه الداخلية وبالتالي رفع منسوب الشعور القومي وظهور اليمين القومي مجدّداً. وهو ما نرى فروقاته مثلاً بين ألمانيا وفرنسا أو إيطاليا تبعاً للوضع الاقتصادي لكل منهما. ولعلّها أم القضايا التي تؤجّج كل الأسباب التي ذكرناها آنفاً.
على صعيد السياسة الداخلية تختلف الأحزاب في برامجها حول كيفية إدماج اللاجئ الموجود في ألمانيا، فيدعو بعضهم إلى توفير كل السبل لإدماجه على اعتبار أنه أمر واقع ويجب إدماجه في المجتمع وسوق العمل، بينما تشترط أحزاب أخرى تحقيق خطوة باتجاه الدخول في سوق العمل أو الدراسة أولاً حتى ينال الإقامة. ولكن أجمعت كل الأحزاب على اختلاف توجهاتها ـ وبغض النظر عن التصريحات ذات الطابع الإعلامي الموجهّة لتجنّب سهام النقد من الجمعيات الحقوقية واليسار الأوروبي ـ أجمعت على إغلاق أبواب الاتحاد الأوروبي بوجه المهاجرين واللاجئين ما أمكن، وبالتالي عدم السماح بتكرار تجربة 2015 في خطوة كان المتضرّر الأكبر فيها هو اللاجئ السوري الذي تاه في هذه المعمورة، ويرفض الجميع استقباله.