تبدو المعركة الحاصلة أخيراً على صفحات التواصل الاجتماعي بخصوص مسلسل معاوية بن أبي سفيان وكأنها معركة خاصة بسكان بلاد الشام والعراق، إذ لا يبدو أن باقي إخوتنا من العرب منشغلون فيها إلا من باب التندر أو من باب المشاركة في الترند الجديد. لكن أمرا كهذا ليس مستغربا، فمجتمعات بلاد الشام والعراق هي مجتمعات متنوعة المذاهب الدينية، ولطالما كان هذا التنوع نقطة ضعف في خاصرة المجتمعين تعرضهما لطعنات أصحاب المطامع التوسعية والهيمنة والاحتلالات المختلفة. بدلا من أن يكون تنوع كهذا مصدر غنى وحراكاً مجتمعياً وثقافياً وقيمياً وحضارياً، لكن الدول الفاشلة، كحال دولنا، والأنظمة الاستبدادية تتلاعب بهذا التنوع لتبقي المجتمعات ضعيفة وعاجزة وخاملة ما يسهل السيطرة عليها ويجعل منها بؤراً تستقبل وتستوعب كل المشاريع اللاوطنية التي يتبناها أفراد هذه المجتمعات لمجرد صدفة ولادتهم في مكان ما لعائلة ما تنتمي إلى عصبة مذهبية أو طائفية ما.
إذن، تقوم حاليا منصة mbc السعودية بإنتاج مسلسل يتحدث عن سيرة حياة الخليفة معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية في دمشق، والمسلسل من إخراج الفلسطيني المصري طارق العريان وتأليف الصحفي المصري خالد صلاح، وبطولة مجموعة كبيرة من الفنانين العرب من مصر وسوريا وفلسطين ولبنان إلخ، جريا على عادة الإنتاجات العربية الضخمة في السنوات الأخيرة، وسيعرض المسلسل في شهر رمضان القادم. أين المشكلة في ذلك؟ معاوية بن أبي سفيان شخصية تاريخية وذات تأثير كبير في التاريخين الإسلامي والعربي ومؤسس أول دولة عظيمة ذات حضارة مدينية في التاريخ الإسلامي جعلت من دمشق حاضرة المدن وأشهرها، وربما عرض المسلسل في هذا الوقت قد يعيد النظر إلى أهمية دمشق التي يتم الفتك بها وبتاريخها منذ زمن ليس بقليل، وهو ليس أول مسلسل عن شخصية إسلامية تنتجه المنصة السعودية وشركات الإنتاج العربية الأخرى، تاريخ الدراما العربية يمتلئ بالمسلسلات التاريخية التي تتحدث عن شخصيات مؤثرة في التاريخ العربي؛ غالبا ما يتم إنتاجها بإسقاطات على الواقع المعاصر بذكاء أو بسذاجة تبعا لخبرة كاتب السيناريو والمخرج معا. وغالبا أيضا ما تتعرض تلك المسلسلات للنقد والتشريح والقبول والرفض من الجمهور والمتابعين والمعنيين؛ وهذا واحد من أسباب استمرار الإنتاجات التاريخية الضخمة. أقصد القبول والرفض والأخذ والرد. فلولا تلك الديناميكية في التعاطي مع الدراما التاريخية لتوقفت شركات الإنتاج عن رصد مبالغ ضخمة للدراما التاريخية ولاكتفت بالمعاصر أو الخفيف أو الكوميدي إلخ.
لكن ما يحصل مع مسلسل معاوية بن أي سفيان مختلف تماما، ذلك أن المعارك حوله تحدث قبل عرضه، قبل أن يعرف أحد شيئا عما سيقدمه صناع المسلسل في العمل الضخم، ولا عن الزوايا التي سيتم تسليط الضوء عليها في سيرة حياة معاوية بن أبي سفيان، فمنذ الإعلان عنه والمقالات والكتابات المؤيدة والمعارضة لم تتوقف، (في ظني أنه حتى صناع العمل لم يحلموا بإعلان لصالح العمل أكثر من هذا الخلاف العلني قبل عرضه، فكل هذه المهاترات حوله تنبه إليه وإلى ضرورة متابعته حتى من قبل غير المهتمين عادة بالدراما الرمضانية). يبدو الأمر لمن يقرأ ما يكتب على وسائل التواصل وكأن مصير الأمة العربية ومستقبلها سوف يحسمه هذا العمل التلفزيوني الرمضاني، فقد تقرأ هنا أو هناك عبارات تستعيد التاريخ بلغة مقعرة وفيها من الرطانة ما يكفي ليجعلك تستكشف ما يختفي وراء الذرائع التي يضعها المعترضون على المسلسل؛ واللافت أن البعض ممن يتصدرون حملات رفض العمل هم مثقفون يجرون خلفهم قطعانا من الغوغائيين الذين يرددون كلاما سخيفا من نوع: "ليس وقته" أو" سيخدم أعداء الأمة لأنه سيزيد انقسام الأمة" والكثير من هذه العبارات الشعاراتية الرنانة الكبيرة جدا على مجرد عمل درامي تلفزيوني؛ يقابلها ردود المعترضين على الاعتراض وهي أقل رطانة لكنها تحمل الوعيد والتهديد على الروافض وكأن سيوف بني أمية تلمع منذرة بقطع الرؤوس؛ وسنقرأ من ضمن حملات الاعتراض على المسلسل مقالات طويلة تسترجع (ظلم) الأمويين لآل البيت، واستمرار ذلك التاريخ من الظلم حتى الآن حيث يشكل المسلسل المزمع عرضه التجلي الأكبر له. طبعا، كما تم التنويه في البداية، يقود الحملات أهل بلاد الشام والعراق، حيث الهويات الطائفية والمذهبية تتفوق على كل الهويات الأخرى، وحيث العصبوية والتحزبات المذهبية تستثمر غريزة القطيع إلى حد إعلان العراق منع عرض المسلسل في أية قناة عراقية، وإلى حد الإعلان عن فيلم سوف تقوم قناة عراقية ممولة من قبل إيران بإنتاجه يحمل عنوان (شجاعة أبي لؤلؤة) وهو اللقب الذي حمله فيروز النهاوندي الفارسي الذي قتل الخليفة عمر بن الخطاب؛ والفيلم كما قيل (إن كان الكلام عن إنتاجه صحيحا) سوف يضم عددا كبيرا من الممثلين العرب: سوريين وعراقيين ومصريين إلخ.
في عام 2010 كنت ممنوعة من السفر في سوريا وطلب مني مراجعة أمن الدولة في منطقة كفرسوسة في العاصمة دمشق، ذهبت في الموعد وانتظرت في غرفة انتظار العميد المسؤول عن الأمر لمدة نصف ساعة قبل أن يطلب مني عنصر الأمن الذي رافقني من مدخل الفرع الدخول لمقابلة (سيادة العميد)؛ كان سيادته جالسا في مكتب فخم جدا برفقته شخص لا أعرفه، وطلب مني الجلوس بإشارة من يده وتابع حديثه مع ضيفه، كان الحديث يدور حول حادثة سقيفة بني ساعدة والمؤامرة التي حصلت على علي بن أبي طالب لمنعه من خلافة الرسول الكريم (نظرية المؤامرة عند العرب قديمة جدا) وحول الحق التاريخي له بالخلافة. لم أصدق يومها ما سمعته، نحن في القرن الحادي والعشرين ومازال هناك من يتحدث عن أمر إن كان قد حصل فعلا فهو حاصل منذ ما يزيد على ألف وأربعمئة عام!! وبعد أن قامت الثورة في سوريا بأقل من أربعة أشهر، ظننت مثل كثر غيري أن تلك الصفحة من التاريخ سوف تطوى أخيرا، وأن التغيير سوف يطول كل شيء وسوف يعيد إلى السوريين هويتهم الوطنية التي طمستها أفعال الاستبداد وأدواته. غير أن الواقع كان أشد هولا بكثير مما كنا نراه ونظنه ونتخيله، لم يكن هناك أي وجود للهوية الوطنية، كانت ملغاة تماما، لم نكن مختلفين لا عن اللبنانيين في ذلك ولا عن العراقيين، نحن وهم كنا نعيش في لعنة تنوعنا التي تلاحقنا كما لو أنها ظلالنا أو شخصياتنا الحقيقية، وهذا ما يجعلنا نعيش في زمنين: الحالي الذي تعيش فيه أجسادنا والماضي الذي يعيش فيه وجداننا الجمعي والمفرد، ومن نحن أساسا غير وجداننا؟
ما هذا يا جماعة؟ ما بكم وعلى ماذا تختلفون؟ لم يبق شيء من بلادنا، أكلتها وأكلتنا الحروب والفقر والظلم والقهر والذل والتشرد والأوبئة والزلازل، فتك بها وبنا الاستبداد، نهش أمراء الطوائف والحروب جثتها، نحن جميعا في العراء الآن، ونختلف ونتشاتم ونتوعد بعضنا البعض من أجل مسلسل؟ هل من سوريالية في العالم تتفوق على سوريالية وضعنا وحالنا؟ التاريخ مضى وانتهى وشخصياته رحلت مثلما سنرحل جميعا، ذات يوم في مستقبل بعيد سوف تتم قراءة زمننا قراءة قد يكون فيها الكثير من الأسطرة والشك معا، وحدها الأحداث الموثقة بالصورة المتحركة ستعامل على أنها حقائق؛ وهو بالطبع ليس حالنا مع التاريخ القديم الذي لم يصلنا منه سوى المدون والمتواتر والمعنعن، وجميعها محكومة بالخيال والإضافات والمبالغات والهوى.
مبروك للقناة السعودية المنتجة للمسلسل ما ستحققه من أرباح بفعل الدعاية المجانية له، ولا عزاء للأغبياء المصرين علي العيش في ماض لا يوجد أي دليل ملموس على حدوث الكثير من أحداثه.