لغزٌ شبه مستحيل سوريا؛ واسطةُ عقد الحزام الحي على كوكبنا؛ منها ربما كان البدء، وبها الاستمرار؛ سرّها خاص؛ وليس غريباً أن تكون دمشق أقدم عاصمة مستمرة السكنى في الأرض. شهدت مهد الحضارة؛ وفيها تنزلت الديانات؛ ولهذا، الصراع فيها وعليها. هي أكبر من أن تبتلعها إمبراطورية مهما كبُرَت، وأخطر من أن يُدار لها الظهر.
إمبراطورية عثمان احتوتها، لكن لم تفككها. شاخت العثمانية، فرُميت "المسألة الشرقية" في وجهها؛ انهارت إمبراطورية عثمان الجامعة بذريعة دينية، وتبعثرت أجزاء سوريا "الأمة"، فحلَّ الأوروبيون أزمتهم مع "اليهود" على حسابها؛ وبطريقهم، قطّعوا أوصالها؛ فأضحت تلك الكتلة الطبيعية الواحدة (اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، بالمعنى الحديث لتلك المفردات) مقاسم وقطع، لكل عاصمته: دمشق، بيروت، عمّان، (القدس/تل أبيب)..
مِنَ القطعة الأكبر، وعاصمتها "دمشق الشام"، وبعد الاستقلال، كانت هناك محاولة لتشكيل "دولةٍ/ أمةٍ سوريةٍ"، سرعان ما تحوّلت إلى مصدر قلق متجدد لأولئك الذين رأوا فيها نواة تعود للحياة والتمدد، فلا بد من إعادة وأدها أو على الأقل خنقها؛ وهنا تمّ تعهيدها للأسدية، التي أعطتها كنيتها لتصبح "سوريا الأسد".
بعد ما يقارب النصف قرن من خنقها، تململت سوريا الشام، فوضعتها الطغمة التي عُهد إليها بخنقها أمام خيارات ثلاث: استمرار الخنق، أو التدمير، أو التقسيم والتبعثر. وشيء من كل هذا حدث. فهي شبه مدمرة، وشبه مقسمة، وشبه مخنوقة؛ وبأفعال من داخلها وخارجها. الحاكم المكلف استخدم كل صنوف الإجرام في التدمير والقتل والاعتقال والإفقار والإذلال والتشريد؛ والخارج ساهم بذلك، وخمس قوى تتحكم بأوصالها المبعثرة؛ وتجاوز ذلك "سايكس بيكو".
يكفي أن نقول إنها الأغنى بمادة "السيليكون" عصب التقانات الحديثة في العالم، وإن جبال الغرانيت والرخام فيها تفرش الكرة الأرضية مرتين
فما الحل في ضوء كل ذلك؟ لكن قبل طرح أي مقاربة للحل، لابد من تثبيت هذه الحقائق؛ والتي لا يحتاج السوريون للكاتب والخبير "جفري ساكس" ليخبرهم بأن بلدهم: - بوابة قارات ثلاث، - بحرها مفتوح على الهادي والأطلسي، - آثارها تساوي ثلثي آثار العالم، - خيراتها ومواردها من نفط وغاز وفوسفات وكهرباء وماء وقطن وقمح وزيتون وخضار تكفي لعيش ثمانين مليون نسمة ببحبوحة كاملة، وبدخل أعلى من دخول الأوروبيين والخليجيين؛ (يكفي أن نقول إنها الأغنى بمادة "السيليكون" عصب التقانات الحديثة في العالم، وإن جبال الغرانيت والرخام فيها تفرش الكرة الأرضية مرتين). والأهم من كل ذلك، سوريا خزان بشري شاب حيث أن سبعين بالمئة من شعبها تحت سن الثلاثين. كل غناها هذا كان محرماً على السوريين معرفته أو الاستفادة منه؛ كل ذلك كان مغيباً، ملغياً، ومحتكراً بيد حصرية هي الاستبداد.
ليس ما حدث ويحدث في سوريا كأي صراع، أو ثورتها كأي ثورة، أو سلطتها ومعارضتها كأي سلطة ومعارضة، أو الإجرام الذي ضربها والقرارت الدولية بشأنها أو مصالح الدول التي غزتها، أو الجوع والعوز والذل والتشرد الذي حلّ بها كأي إجرام وقرارات ومصالح ومعانات. تجاوز عمر كابوسها زمن الحربين العالميتين. تحتاج آلاف الكتب والروايات والأفلام لتروي قصتها.
هناك قرارات دولية يجري الحديث عنها؛ هناك من يفكر بإجراء انتخابات ضارباً بعرض الحائط كل القيم والحقوق والقوانين؛ هناك مصالح دول؛ هناك قوات احتلال لا بد من خروجها؛ هناك إسرائيل التي حققت ما لم تحلم به، وتبقى خائفة مما هو قادم؛ هناك من يريد عدالة وقصاص وجبر كسور؛ هناك من يرى الثورة والمعارضة وظيفة أو رحلة قطار؛ وهناك من تنفس الحرية، ولن يساوم عليها، ومن حقه. وكما أن هناك سراً ورمزية وإعجازاً سورياً، كذلك كانت ثورتها نوعاً من الإعجاز؛ ومن هنا كانت كلفتها في الدم والألم والدموع بلا حدود؛ لقد كانت إعجازاً، لأن أحداً لم يتوقّع انطلاقها في ظل استبداد وقمع وخنق وعمالة مَن يضع يده عليها؛ ومن هنا أيضاً، لا بد لذلك الإعجاز وتلك التضحيات أن تثمر؛ ولا بد من حل.
والآن حيث وصلنا، لا حرب إقليمية أو شاملة توصلنا إلى الحل، لأنها تفاقم وتضاعف ما نحن فيه؛ وليس عبر الحرب نحصل على السلام؛ وما من حرب إلا والخسارة تصيب الجميع، وخاصة في سوريا؛ ولا الاحتلال يغيب فجأة وبقدرة قادر؛ ولا حقوق السوريين تعود بضغطة زر.
لا بد من حل سوري- سوري؛ لا كما يكذبون؛ بل كما نريد، وكما تحتاج سوريا لتعود إلى سكة الحياة
ليس أمامنا إلا الاعتراف بالآخر، إنه الصلح، إنه المشاركة الطوعية، والوحدة الطوعية؛ إنه التضحية من أجل وحدة البلاد. مَن تدخل بوطننا لا يريد حلاً ولسنا من أولوياته إلا بقدر تطابق الحل مع مصالحه. لهذا الآخر، نحن مجرد قصة إنسانية، حلبة تصفية حسابات، حقل رمي لاختبار الأسلحة، ميدان لحل عقد متأزمة تاريخياً، فرصة لتقديم أوراق اعتماد لنيل الرضى، وإطفاء ثارات تاريخية، وترجمة إيديولوجيات. وها هم يتركوننا أمام خيارات هي الأصعب في التاريخ السوري: -استنقاع وتفسخ وتعفن؛ أو حكم عسكري استبدادي آخر يتماهى مع الدكتاتورية الروسية؛ أو ترقيع حل على مقاس مصالح المتدخلين وأداتهم.
من هنا لا بد من حل سوري- سوري؛ لا كما يكذبون؛ بل كما نريد، وكما تحتاج سوريا لتعود إلى سكة الحياة. لم ينفع العقل بمنع الكارثة؛ علّه ينفع بوقفها، واستعادة الروح السورية. إن عقاب منظومة الاستبداد من رأسها حتى آخر مجرم فيها مليون مرة لا يعيد روح سورية، ولا يوقف ألم مغتَصبة، أو يشفي جرح أم أو يعيد كرامة وطن أو رزق سوري قُهِر. فقط بإزاحة المنظومة من المشهد يحدث الصلح والتصالح والمصالحة، التي لن تكون عادلة، ولن تعيد الحقوق؛ ولكنها كفيلة ببدء الجرح السوري بالتماثل إلى الشفاء؛ والأهم من ذلك أن نبدأ بالارتقاء إلى تضحيات كل هؤلاء، ونوقف ضرب بعضنا بعضا، ونفوّت على منظومة الاستبداد الاستفادة والعيش على تمزقنا، وعلى المحتل إحساسه بتشرذمنا وضعفنا وأنانيتنا؛ وهذا يحتاج جهداً وعقلاً وإرادةً من الجميع. لأننا نحبها، ولأنها تستحق، نريد حلاً؛ ونحن قادرون.