يحتفل الألمان في شهر تشرين الثاني / نوفمبر من كلّ عامٍ بثلاث مناسبات، اثنتان منها تثيران في نفوسهم الفخر والاعتزاز والنشوة، والثالثة تُشعرهم بالخزي والعار وتأنيب الضمير. الأولى تشيرُ إلى تاريخ إلغاء المَلَكِيّة وإعلان جمهورية فايمار عام 1918 إثر الثورة التي اندلعت بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ومصدر الفخر هنا أنّ الألمان لم ينحوا منحى الشيوعية السوفييتية، بل وضعوا في ذلك التاريخ أسس الديمقراطية الألمانية الحديثة. أما الذكرى الثانية التي تثير الفخار أيضاً، فهي ذكرى سقوط جدار برلين، والتي كانت المعبر لألمانيا الموحّدة من جديد بعد تقسيم فعلي واحتلال أجنبيّ داما عقوداً طويلة.
الذكرى الأليمة التي تقضُّ مضاجع الألمان وتؤنّب ضمائرهم باستمرار هي ذكرى ليلة الزجاج المكسور أو ليلة الكريستال (Reichskristallnacht) التي بدأت أحداثها عام 1938. تلك الليلة التي تمّ بها حرق معابد اليهود ومحالهم وممتلكاتهم في عموم ألمانيا والنمسا والمناطق المحتلة من قبل الجيش الألماني في تشيكوسلوفاكيا. تؤرّخ ليلة الكريستال تلك لبداية عمليات العنف ضدّ اليهود والتي انتهت بالمحرقة أو الهولوكوست. طال الحريق والتدمير يومي 9 و10 نوفمبر 1938 ما يقرب من 267 معبداً يهودياً و7500 محلٍ تجاري، وقتل في هاتيك الليلتين 91 يهودياً وسُجّلت آلاف عمليات الاغتصاب وعشرات عمليات الانتحار التي تلتها.
رغم أنّ مصطلح معاداة الساميّة أو اللاسامية (Anti-Semitism) يُشير ظاهرياً إلى معاداة جميع الشعوب التي تتكلّم اللغات السامية ومنها العربية والعبرية والآشورية، إلا أنّ المفهوم اقتصر في أوروبا تاريخياً على اليهود. وفي الحقيقة فإنّ تعبير كراهية اليهود أو بالألمانية (Judenhass) لم يكن وليد القرن العشرين، بل تعود جذوره إلى مجازر راينلاند التي سبقت الحملة الصليبية الأولى عام 1096، ومرسوم الطرد من إنجلترا عام 1290، ومذابح اليهود الإسبان عام 1391، وملاحقات محاكم التفتيش الإسبانية، وطردهم من إسبانيا عام 1492، ومجازر القوزاق في أوكرانيا بين عامي 1648 و1657، ومذابح اليهود العديدة في الإمبراطورية الروسية بين عامي 1821 و1906 وصولاً إلى المحرقة النازيّة في القرن العشرين.
لم يألُ الإسرائيليون والصهاينة جهداً في ترسيخ صورة اليهودي كضحيّة تناضل باستمرار من أجل الحصول على حقوقها، مقابل تصوير العالم كلّه كمتهمٍ يحاول تجريد الضحية من هذه الحقوق
كان من النتائج المباشرة للحرب العالمية الثانية التسريعُ بإعلان إنشاء دولة إسرائيل على أراضي فلسطين التاريخية. وكان من نتائج المحرقة النازية بحق يهود أوروبا هجرة أعداد كبيرة منهم إلى فلسطين. استثمرت الوكالة اليهودية لأجل إسرائيل (Jewish Agency for Israel) التي هي الذراع التنفيذي للحركة الصهيونية العالمية في هذه المحرقة أيّما استثمار، فبات مصطلح معاداة السامية سلاحاً فتّاكاً بيد الصهاينة والإسرائيليين لتحقيق المكاسب من ألمانيا ومن دول الغرب عامّة. لم يألُ الإسرائيليون والصهاينة جهداً في ترسيخ صورة اليهودي كضحيّة تناضل باستمرار من أجل الحصول على حقوقها، مقابل تصوير العالم كلّه كمتهمٍ يحاول تجريد الضحية من هذه الحقوق.
على المقلب الآخر ومن جانب المسلمين، لا يمكن لأحدٍ إحصاءُ المجازر التي ارتكبت بحقّ المسلمين، ولا أعداد الضحايا الذين قضوا جرّاءها، بدءاً من مجازر الإسبان والبرتغاليين بعد سقوط الحكم العربي الإسلامي في الأندلس وما تبعه من محاكمات مرعبة أجرتها محاكم التفتيش الإسبانية والبرتغالية على مدار قرون، مروراً باضطهاد المسلمين الشركس والشيشان وغيرهم من شعوب آسيا على يد الروس، وصولاً إلى مأساة المسلمين الروهينغا في ميانمار والمسلمين الإيغور في الصين والمسلمين عامّة في الهند. ألم يخطر على بال أحدٍ أن يسأل لماذا لم يستطع المسلمون جمع جهودهم لمساندة أنفسهم من جهة ولوقف الاعتداءات عليهم في جهات الأرض الأربع من جهة ثانية؟
السؤال مشروع، والإجابة عنه واضحة لنا. إنّ افتقار المسلمين لقيادة سياسية واحدة موحّدة كما كان الأمر أيام الدولة الأموية وبدايات الدولة العباسية، وافتقادهم لمرجعية دينية مركزية كما هو حال المسيحيين الكاثوليك الذين تدين جميع كنائسهم بالولاء للبابا ولمرجعية الفاتيكان، هذا كلّه جعل من الصعوبة بمكان درء المظالم عن المسلمين. يلعب التنافس السياسي بين زعماء مسلمين وعرب اليوم مثلاً أكبر الأثر في ترسيخ حالة الضعف هذه. وبينما نرى اليهود مصطفّين خلف مؤسساتهم الرسمية التي تتبع لحكومة إسرائيل، وخلف المنظمات التي تم إنشأوها في جميع مراكز صنع القرار العالمي، نجد المسلمين يضربون بعضهم بعضا في أصغر القضايا وأبسطها.
مشكلة اليهود الكبرى ومحنتهم لم تكن مع العرب والمسلمين، أو في الشرق عاّمة، بل مع المسيحيين في الغرب
بينما كانت المتحدّثة الرسمية باسم حزب بهارتيا جانتا الحاكم في الهند السيدة نوبور شارما تدلي والرئيس الإعلامي للحزب بتصريحاتٍ مسيئة للرسول محمّد صلى الله عليه وسلّم، كان وزير التسامح والتعايش الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان يفتتح أوّل معبد هندوسي في دبي على أرض مساحتها 2300 متر مربّع وبكلفة قدرها 16 مليون دولار أميركي. يبدو أنّ بعض الحكام العرب والمسلمين ليس لديهم في حساباتهم ما يمكن أن يشمل رعايا هذا الدين بغضّ النظر عن المصالح الخاصّة بدولهم. ونحن بالتأكيد لسنا من دعاة اضطهاد الهندوس ولا السيخ ولا أتباع أي ديانة كانت، ولسنا ضد بناء معابد لهم والسماح لهم بحريّة الاعتقاد والتعبّد، فهذه حقوق مكفولة بموجب الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، لكننا بكل تأكيد ضدّ مكافأة من نراهم ليل نهار يرتكبون أفظع المجازر بحق المسلمين. ألم يكن بإمكان حكّام إمارة دبي مثلاً الضغط على حكّام الهند لوقف تجاوزاتهم بحق المسلمين؟ بكل تأكيد، هذا أمرٌ هيّنٌ عليهم، فحكومات الدول الخليجية تعتبر المصدّر الأول للطاقة إلى الهند، والتي تعتبر المشغّل الأول للعمالة الهندية.
تؤكّد قراءات كثيرةٌ للتاريخ أنّ مشكلة اليهود الكبرى ومحنتهم لم تكن مع العرب والمسلمين، أو في الشرق عاّمة، بل مع المسيحيين في الغرب، والاضطهاد الأكبر الذي تعرّضوا له، أتى من غير من يسومونهم هم الآن سوء العذاب والاضطهاد وينزلون بهم أشدّ المعاناة. يبقى في النهاية من نافلة القول إنّ اليهود قادرون على تحويل المحنِ إلى فُرص، لأنّهم امتلكوا ناصية العلم والمعرفة والإدارة، ولأنّهم استطاعوا خلق قيادة واحدة يسيرون خلفها. بينما عجز المسلمون، وسيبقون عاجزين عن ذلك، لأنّهم استمرؤوا الفرقة والتناحر والتنافر.