بدءاً من منتصف القرن الثامن عشر الميلادي بدأت تظهر لنا أخبار بلاد الشام، بعد أن كانت غائبة على طول قرنين من الزمن، منذ دخول العثمانيين إليها بعد انتصارهم على المماليك في مرج دابق عام 1516.
نظام الملة
لم يلجأ العثمانيون لتغيير كبير في النظام الاجتماعي الذي كان سائداً منذ ما يقارب التسعة قرون، فالسكان مقسمون بالدرجة الأولى بين مسلم وذمي، والذمي هو الذي يدفع للدولة الجزية مقابل أن تصبح حمايته في ذمة الدولة، حسب نظام الملّة الذي كانت تتمثّل عبْرَه الطوائف غير المسلمة في الدولة العثمانية من المسيحيين واليهود، بالدرجة الأولى، وهؤلاء هم من سأحاول أن أكتب عن وضعهم.
تأثر بالحروب
كانت أكثرية المسيحيين في دمشق خلال القرن الثامن عشر هي من الشرقيين، الأرثوذكس، صحيح أن معاملتهم لم تكن سيئة كما معاملة مسيحيي شرق أوروبا والقوقاز، حسبما تقول ليلى الصباغ في كتابها المجتمع العربي السوري في مطلع العهد العثماني، ولكن هؤلاء تأثر وضعهم كثيراً بالحروب التي كانت تنشب بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية، ففي كل هزيمة تمنى بها الدولة كان يتم التشديد عليهم، وبعد انتشار البعثات التبشيرية الغربية والقناصل والتجار الغربيين، استطاعت هذه البعثات أن تجعل نسبة لا بأس بها من الأرثوذكس تعتنق الكاثوليكية، وبنسبة أقل البروتستانتية الإنجيلية.
تأثر بالولاة
كما تأثر وضع هؤلاء بالولاة، فإذا كان الوالي متسامحاً كانت أحوالهم جيدة، وإذا كان الوالي متعصباً ضيق عليهم وألزمهم تنفيذ كل شروط الذمة المستحقة منها والمستحبة، والمستحقة كعدم الإساءة للإسلام والقرآن والنبي الكريم، أما المستحبة فمنها مثلاً لبس زي مخالف لزي المسلمين، وتحكي كتب الإخباريين التي وصلتنا عن بداية القرن التاسع عشر أن الوالي العثماني (كنج يوسف باشا) ضبط ثلاثة من النصارى لم يلتزموا باللباس المحدد فقتل أحدهم، ثم أسلم الاثنان الباقيان، كي ينجوا من القتل، حسبما ورد في يوميات حسن آغا العبد، وهو والٍ عثماني تسلَّم أكثر من ولاية داخل بلاد الشام. وكذلك كان التضييق خلال فترة ولاية أحمد باشا الجزار، الذي أرهق المسيحيين بالضرائب، حتى قال خوري يدعى ميخائيل الدمشقي في كتابه تاريخ الشام من 1720 حتى 1782 إن ظلم الجزار وحده يفوق كل ما تقدم.
تسامح ولاة آل العظم
على العكس من ذلك كانت أوضاع النصارى جيدة خلال فترات الولاة الذين تعاقبوا على دمشق من آل العظم، كأسعد باشا ومحمد باشا وعبد الله باشا وغيرهم، وفي هذا السياق يقول ميخائيل الدمشقي" قرأت في تواريخ دمشق منذ تسلمها الإسلام إلى هذا الزمان فما رأيت تاريخاً يخبر بأنه صار للنصارى عز وجاه وصيت وذكر مثل مدة العشر سنين الماضية في حكم أسعد باشا بن العظم".
حماية غربية وحرب أهلية
بعد الهزائم المتتالية التي منيت بها الدولة العثمانية مع الروس، ومن ثم الثورات التي اندلعت في البلقان، وغزو محمد علي باشا لسوريا، وإلغائه نظام الملة، ومساواته بين كل الطوائف، قبل إجبار بريطانيا والنمسا ودول أوروبية له على قبول معاهدة لندن، التي بمقتضاها اضطر محمد علي لسحب قواته من سوريا، وبالتالي تقليص نفوذه. بناءً على كل هذا اضطرت الدولة العثمانية لتوقيع معاهدات حماية مع الدول الغربية، التي أخذت كل دولة حماية طائفة إلى جانبها، وانتشرت البعثات التبشيرية والمدارس الغربية والتجار، ومعها تحسنت أحوال المسيحيين التعليمية والاقتصادية، وهنا شعر مسلمو دمشق باستياء كبير من هذه التطورات، خصوصاً الحرفيين وعمال النسيج، الذين حلت البضاعة الأوروبية محل صناعتهم، "فصبوا جام غضبهم على المجتمع المحلي المسيحي، الذي ارتبط مؤخراً في الذهنية الشعبية بالمصالح الأوروبية"، كما يقول نشوان أتاسي في كتابه (تطور المجتمع السوري بين 1830 و2011).
وضع اليهود أفضل
لو انتقلنا إلى اليهود فإن وضعهم في ظل الدولة العثمانية كان أفضل من المسيحيين، فهؤلاء لم تكن الدولة تنظر إليهم بعين القلق، ولم يكن هنالك دولة يهودية منافسة تخاف منها الدولة العثمانية، وهم أقلية صغيرة لا يمكن أن يشكلوا خطراً على الدولة، وكانوا يعيشون ضمن أحياء دمشق وليس في غيتو خاص بهم، كما كان حالهم في بعض الدول الأوروبية. غير أن العلاقة بين المسيحيين واليهود لم تكن على ما يرام، إذ إن موسى سيسون الذي كان حاخام اليهود إبان حكم محمد علي يقول" إن المسلمين يضطهدوننا ككل الناس بسبب طبيعتهم الجافية، في حين أن المسيحيين يضطهدوننا عمداً".
يقول يوسف نعيسة في كتابة "يهود دمشق" إن اليهود الدمشقيين قديمون منذ القرن السادس الميلادي وهم على ثلاثة طوائف رئيسية الربانيون والقرائيون والسامريون، وهؤلاء لم يكن جميعهم تجاراً وأصحاب رؤوس أموال، بل كان الكثير منهم يعملون بالحرف المتواضعة، بل والمحتقرة كالـ بويجية وتعزيل المراحيض وغيرها، ومهنٍ كان يأنفها المجتمع المسلم كالغناء.
السيطرة على الاقتصاد
ونتيجة اضطهاد الإمبراطورية الروسية لهم جاء إلى دمشق اليهود الأشكناز، وبعد سقوط الأندلس وفد إليها السفارديم، الذين ما لبثوا أن تصدروا وأصبحوا هم سادة اليهود في المجتمع السوري، وهؤلاء برز منهم صيارفة وتجار رقيق وتجار كبار يقرضون بالفائدة، ويتلاعبون بأسعار النقد حسب مصالحهم، وسيطروا حتى على تمويل جردة الحج، حتى إن والي دمشق ولي الدين باشا قد عزل كبير الصيارفة رافائيل فارحي، فهرب فارحي إلى بغداد وعمل مع التجار من أبناء جلدته هناك على التواصل مع السلطات العثمانية في إسطنبول لعزل هذا الوالي، وكان له ما أراد، بل ظل يسعى حتى قتل كبير الصيارفة المسيحي الذي حل محله في منصبه إبان إقالته.
رشوة محمد علي
وخلال حملة محمد علي على سوريا 1832-1840 أصيبت بعض الأسر اليهودية بنكسة لأنها فقدت مناصبها المالية، وكان هذا من الأسباب التي جعلتهم يعملون مع الإنكليز لإجلاء محمد علي عن سوريا، حتى عندما أدين اليهود بقتل الراهب توما الكبوتشي ومساعده، لم ينفذ محمد علي العقوبة بحقهم، كون اليهود الإنكليز قد اشتروا حرية أبناء جلدتهم بكم كبير من الذهب، خصوصاً أن إنكلترا قد أخذت على عاتقها حماية اليهود، فيما روسيا تحمي الأرثوكس وفرنسا تحمي الكاثوليك والموارنة.
وللحفاظ على مكتسباتهم المادية لجأ التجار اليهود إلى القناصل الأجانب ووضعوا أنفسهم تحت حمايتهم فحصلوا على البراءات السلطانية، التي تمنع المساس بهم والاقتراب منهم.
صعوبة إقالتهم
وكان منهم "دفتردارية" استلموا الشؤون المالية في الدولة العثمانية، فاشتكى الدمشقيون للسلطان محمود الثاني ابتزاز اليهود للأموال بطرق ملتوية، فاستجاب لهم وأمر بعزل اليهود من ديوان السرايا، إلا أن والي دمشق قد عجز عن التنفيذ كون الحسابات والتسجيلات قد كتبت باللغة العبرية، التي لا يتقنها سوى اليهود، فاضطر الوالي مكرهاً لإعادتهم لمناصبهم بعد عزلهم.
بعد هذه المراجعة السريعة.. فإنه ورغم قرب الشريعة اليهودية عقدياً من المسلمين في أكثر من جانب، إلا أنه في الموروث الشعبي الشفوي قلما نجد ما يمدحهم، وكله منصب على حبهم للمال وتقديسه، في حين أن الموروث الشفوي عن المسيحيين مختلف، حتى إن أحد الأمثال يأمر المسلم بالنوم عند المسيحي لوجود الأمان عنده.